تحديد هدفك بخمسة أسئلة

5 أسئلة تحدد هدفك في الحياة

إن مسألة تحديد الهدف في الحياة من أعقد المسائل الوجودية التي شغلت الفلاسفة والعلماء والباحثين النفسيين لقرون طويلة، إذ أن الإنسان بطبيعته كائن يسعى نحو المعنى، ويعيش على أمل أن تكون لحياته غاية سامية تتجاوز البقاء البيولوجي والسعي نحو اللذة أو تجنب الألم. في هذا السياق، تشكّل الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه حجر الزاوية في اكتشاف ذاته وهويته ورسالة وجوده. ومن خلال خمسة أسئلة جوهرية، يمكن لأي إنسان أن يبدأ رحلة الغوص العميق في الذات، وأن يجد خارطة طريق تُضيء له معالم الهدف الحقيقي لحياته. في هذا المقال المطوّل، سيتم تناول هذه الأسئلة تحليليًا ونفسيًا وفلسفيًا، مستعرضين جذورها وتأثيرها وارتباطها بالهوية والسلوك، كما سيتم الاستعانة بنماذج واقعية ونظريات علم النفس المعاصر لإغناء المحتوى.

السؤال الأول: ما الذي يثير شغفي بعمق؟

إن الشغف ليس مجرّد اهتمام سطحي أو تفاعل وقتي مع نشاط معين، بل هو ذلك الشعور العميق بالانجذاب الداخلي نحو عمل أو فكرة أو مبدأ، بحيث لا يشعر الإنسان بالملل أثناء ممارسته، بل يجد فيه طاقة متجددة ودافعًا للاستمرار رغم التحديات. علماء النفس الإيجابي، أمثال “مارتن سيليغمان” و”ميهالي تشيكسينتميهالي”، ربطوا بين مفهوم الشغف ومفهوم “التدفّق” (Flow)، وهو حالة ذهنية يصل فيها الإنسان إلى قمة التركيز والانغماس في نشاط معين.

ويُعد تحديد هذا الشغف أول مفتاح لفهم الرسالة الشخصية، لأنه يعكس بشكل غير مباشر احتياجات الفرد النفسية العميقة، مثل حاجته للإبداع، أو لحل المشكلات، أو لخدمة الآخرين. تتضح أهمية هذا السؤال من خلال النظر إلى النماذج البشرية التي أسّست لنفسها أهدافًا كبرى انطلاقًا من شرارة شغف. فمثلاً، شغف نيلسون مانديلا بالعدالة جعله يكرّس حياته للنضال ضد الفصل العنصري، بينما شغف ماري كوري بالعلم دفعها لاكتشافات غيّرت مجرى الطب الحديث. إن الشغف ليس ترفاً عاطفياً، بل هو منجم الإشارات التي ترشدنا إلى طبيعتنا النفسية.

السؤال الثاني: ما القيم التي أرفض التنازل عنها؟

القيم تشكّل العمود الفقري للهوية الإنسانية، وهي المبادئ الأساسية التي تحدد ما هو مقبول أو مرفوض في حياة الإنسان. هذه القيم قد تكون مكتسبة من البيئة، أو مغروسة بفعل التجارب المؤلمة، أو نتيجة تربية مبنية على مبادئ أخلاقية معينة. وتحديد هذه القيم يمكّن الإنسان من التمييز بين ما هو جوهري وما هو ثانوي، ويشكّل بوصلة أخلاقية تضمن انسجام الهدف مع الضمير.

يؤكد “ستيفن كوفي” في كتابه الشهير “العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية” على أن الأهداف النابعة من القيم تمتاز بالقوة والاستدامة، لأنها تنبع من الداخل لا من الضغوط الخارجية. وقد أظهرت دراسات في علم النفس الأخلاقي أن الأفراد الذين يعيشون بما يتماشى مع قيمهم الجوهرية يحققون معدلات أعلى من الرضا النفسي والاستقرار الذهني. فالقيم مثل “الحرية”، “العدالة”، “الصدق”، “الرحمة”، تصبح فلترة طبيعية لكل هدف أو قرار يُتخذ، وإذا ما تم تجاهلها في رسم مسار الحياة، سينشأ صراع داخلي يولّد التوتر والشعور بالاغتراب.

السؤال الثالث: ما نوع التأثير الذي أود تركه؟

لا يكتمل إدراك الهدف دون النظر إلى ما يخلّفه الإنسان وراءه من أثر. فالأثر لا يعني بالضرورة الشهرة أو الإنجازات الكبرى، بل قد يتمثل في تربية جيل واعٍ، أو نشر المعرفة، أو تأسيس مشروع اجتماعي يخدم المحتاجين. يرى “فيكتور فرانكل”، مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى، أن الإنسان لا يعيش فقط لإشباع رغباته، بل ليمنح حياته معنى من خلال المساهمة في شيء أكبر منه.

ويشكّل الأثر سؤالًا وجوديًا يحرّك في الإنسان إحساسه بالخلود الرمزي، أي الرغبة في أن تبقى بصمته قائمة بعد رحيله. الدراسات التي أجريت على المسنين، مثل تلك التي أجرتها جامعة هارفارد في دراسة طويلة عن السعادة، أظهرت أن الأشخاص الذين شعروا بأن حياتهم تركت أثرًا على الآخرين، عانوا من معدلات أقل من الاكتئاب والندم في سن الشيخوخة.

في المجتمعات التقليدية، كانت الأدوار المحددة مسبقًا تُوفر للإنسان نوعًا من الأثر المتوقع، مثل كون المرء معلمًا أو طبيبًا أو رجل دين. لكن في المجتمعات الحديثة التي تتميز بسيولة الأدوار، أصبح تحديد هذا الأثر مسؤولية فردية، تتطلب تأملًا عميقًا وتصورًا مستقبليًا واضحًا. هل الأثر الذي تريده مادي أم معنوي؟ لحظي أم مستدام؟ هذه الأسئلة الفرعية تساعد على دقة التحديد.

السؤال الرابع: ما التجارب التي شكّلتني؟

تُعد التجارب الحياتية، خاصة المؤلمة منها، نقطة انطلاق مهمة لفهم رسالتك الشخصية. فالكثير من الأشخاص الذين مرّوا بتجارب قاسية، مثل فقدان عزيز أو تعرّض للظلم أو الصراعات النفسية، تحولوا إلى رموز ملهمة بعد أن قرروا تحويل ألمهم إلى هدف يخدم الآخرين. لقد أشار “كارل يونغ” إلى أن الظل (Shadow) أو الجانب المظلم في التجربة الإنسانية قد يكون مفتاحًا لاكتشاف الذات الحقيقية، لا عائقًا أمامها.

التجربة الشخصية هي المورد الأغنى لبناء سردية حياتية ذات معنى. ووفقًا لنظرية “السرد الذاتي” (Narrative Identity) التي طوّرها دان ماكآدامز، فإن الإنسان يخلق هوية ذاتية من خلال سرد قصته بطريقة تمنحه الاتساق والمعنى. فبدلاً من اعتبار التجربة المؤلمة مجرد حدث عرضي، يمكن تأطيرها كدافع للانخراط في رسائل حياتية أعمق، سواء في المجال النفسي أو الإنساني أو المجتمعي.

وفي السياق نفسه، تلعب التجارب الإيجابية دورًا مهمًا أيضًا. فهي لا تكتفي بإثبات كفاءات الفرد، بل تُبرز الأنماط التي تتكرر في نجاحاته، ما يساعد على بلورة ما يُعرف بنقطة القوة الجوهرية (Core Strength) التي تمكّنه من المساهمة بفاعلية في محيطه.

السؤال الخامس: ما المهارات التي أملكها ويمكن أن أُطوّرها؟

لا يمكن بناء هدف حياة فعّال دون إدراك واقعي للمهارات المتاحة للفرد. فالموهبة الخام ليست كافية ما لم تترافق مع تطوير دائم وتوظيف فعلي. ولذا، فإن معرفة الذات من خلال العدسة العملية ضرورية، وتشمل تقييم نقاط القوة، والمهارات الفطرية، والقدرات المكتسبة. يقول عالم النفس “هوارد غاردنر” في نظريته عن الذكاءات المتعددة إن كل إنسان يمتلك نوعًا أو أكثر من الذكاء الذي يمكن تحويله إلى وسيلة لإنجاز هدفه الحياتي.

تحديد المهارات لا يعني فقط رصد ما هو موجود، بل يتطلب استشراف ما يمكن اكتسابه. فالمهارة يمكن تعلّمها وتحسينها مع الوقت، لكنها تحتاج إلى تكرار ومثابرة. الدراسات الحديثة في علم الأعصاب تُثبت أن الدماغ يمتلك مرونة عالية تُمكّنه من إعادة تشكيل نفسه مع التدريب المستمر، وهو ما يُعرف بـ “اللدونة العصبية” (Neuroplasticity).

وهنا يُطرح مفهوم “نقطة التقاطع المثالية” أو ما يُعرف بـ Ikigai في الفلسفة اليابانية، والتي تمثّل التلاقي بين أربعة عناصر: ما تحب (الشغف)، ما تجيده (المهارة)، ما يحتاجه العالم (الأثر)، وما يمكنك أن تتقاضى عليه أجرًا (المهنة). وعندما تتقاطع هذه العناصر الأربعة، تظهر رسالة الحياة بوضوح.

جدول: مقارنة بين المفاهيم الخمسة

الخاتمة

إن تحديد هدف الحياة لا يتطلّب إجابة فورية أو قرارًا نهائيًا، بل هو عملية تأملية مستمرة تتطلب إعادة تقييم مستمر للأسئلة الأساسية التي تصوغ الهوية وتوجّه السلوك. وعبر التفاعل العميق مع الأسئلة الخمسة المذكورة، يصبح الإنسان أكثر قدرة على صياغة رؤيته الذاتية، وتحديد وجهته، والتفاعل بوعي مع الوجود من حوله. هذا الطريق ليس سهلاً، ولكنه الطريق الوحيد نحو حياة مليئة بالمعنى، بعيدة عن العشوائية، محكومة بالبصيرة والنية، ومرتكزة على وعي حقيقي بالذات والعالم.

المراجع:

1. Viktor Frankl, Man’s Search for Meaning, Beacon Press, 2006.

2. Mihaly Csikszentmihalyi, Flow: The Psychology of Optimal Experience, Harper & Row, 1990.