كيف تحدد جذور أي مشكلة من خلال 5 أسئلة بسيطة؟

في عالم الأعمال والحياة اليومية، غالبًا ما نواجه مشكلات تتكرر أو تعود للظهور بأشكال مختلفة، ما يجعلنا نشعر وكأننا عالقون في حلقة مفرغة. سواءً كنت مديرًا في شركة، أو ربّ أسرة، أو طالبًا، فإن القدرة على تحديد جذور المشكلات هي مهارة جوهرية لتحقيق التقدم وحل التحديات بشكل فعّال. التعامل مع الأعراض فقط يؤدي إلى حلول سطحية، بينما الوصول إلى السبب الجذري يُعدّ خطوة حاسمة نحو التغيير الحقيقي والدائم.

في هذا السياق، برزت تقنية تحليل الأسباب الجذرية والمعروفة عالميًا باسم “5 لماذا؟” أو (5 Whys)، وهي أداة تحليلية تعتمد على طرح سلسلة من الأسئلة المتتابعة تبدأ بكلمة “لماذا؟”، حتى يتم التوصّل إلى أصل المشكلة. هذه الطريقة تم تطويرها داخل شركة “تويوتا” اليابانية في بدايات القرن العشرين، وأثبتت فعاليتها في تحسين الجودة، وتجنب تكرار الأخطاء، والوصول إلى قرارات دقيقة.

أولاً: ما هي تقنية “5 لماذا؟”

تعتمد هذه التقنية على مبدأ بسيط ولكنه عميق: لكل مشكلة سبب، ولكل سبب دافع أعمق منه. من خلال تكرار سؤال “لماذا؟” خمس مرات متتالية (أو أكثر حسب الحاجة)، يمكن للمرء أن ينقب تدريجيًا في طبقات المشكلة حتى يصل إلى لبّها.

الميزة الكبرى في هذه المنهجية هي أنها لا تتطلب أدوات تقنية معقدة، بل يمكن استخدامها بسهولة في الاجتماعات، أو جلسات العصف الذهني، أو حتى أثناء التأمل الذاتي، وهي مفيدة في مجالات متعددة مثل إدارة الأعمال، والتعليم، والعلاقات الاجتماعية، والصحة النفسية.

ثانياً: المبدأ الأساسي وراء تقنية الأسئلة الخمسة

جوهر هذه التقنية هو البحث عن العلاقات السببية بين حدث أو ظاهرة معينة وأصلها. في كل مرة يُطرح فيها سؤال “لماذا؟”، يتم فحص السبب المباشر، ثم يتم طرح سؤال جديد حول سبب هذا السبب، وهكذا. الهدف هو الغوص تدريجيًا في طبقات المعضلة حتى يتم الوصول إلى السبب الجذري، والذي غالبًا ما يكون غير ظاهر على السطح.

مثال مبسط:

• المشكلة: السيارة لا تعمل.

• لماذا؟ لأن البطارية فارغة.

• لماذا؟ لأن الدينامو لا يشحن البطارية.

• لماذا؟ لأن الحزام الذي يدير الدينامو مقطوع.

• لماذا؟ لأنه لم يتم صيانته بانتظام.

• لماذا؟ لأنه لا يوجد جدول صيانة دوري.

السبب الجذري هنا هو غياب جدول صيانة منتظم، وليس مجرد نفاد البطارية كما يبدو في الظاهر.

ثالثاً: فوائد استخدام الأسئلة الخمسة في تحليل المشكلات

1. الوصول إلى جذور المشكلة الحقيقية

غالبًا ما تُحل المشكلات على مستوى الأعراض وليس الأسباب. باستخدام هذه التقنية، يمكن تجنّب الإصلاحات المؤقتة، والتركيز بدلاً من ذلك على الحلول المستدامة طويلة الأجل. على سبيل المثال، في مؤسسة تواجه انخفاضًا في الإنتاجية، يمكن من خلال سلسلة الأسئلة الوصول إلى أن المشكلة ليست في الموظفين، بل في غموض الإجراءات أو ضعف القيادة.

2. تقليل التكاليف الناتجة عن تكرار الأخطاء

المشكلات التي لا تُحل من جذورها تتكرر، ما يؤدي إلى استنزاف الموارد البشرية والمالية. من خلال فهم الأسباب الحقيقية، يمكن منع تكرار الأخطاء وتحسين الكفاءة العامة.

3. تعزيز ثقافة التعلم المستمر

تطبيق هذه المنهجية يُعلّم الأفراد والمؤسسات التفكير النقدي والتحليلي، ويشجعهم على عدم القبول بالسطحيات. هذه الثقافة تبني فرقًا قوية قادرة على التعلّم من التجارب السابقة وتحقيق التحسين المستمر.

4. تبسيط عمليات التحليل

في الوقت الذي قد تتطلب فيه بعض أدوات التحليل المعقدة وقتًا وخبرات عالية، توفر هذه التقنية وسيلة بسيطة وسريعة لفهم أي مشكلة، مما يجعلها أداة مناسبة للاستخدام اليومي.

رابعاً: كيف تُطبق هذه المنهجية عمليًا؟

الخطوة 1: تعريف واضح للمشكلة

الخطوة الأولى هي تحديد المشكلة بشكل دقيق ومحدد. يجب أن تكون الصياغة واقعية وقابلة للقياس. على سبيل المثال: “انخفاض المبيعات بنسبة 20% في الربع الأخير”.

الخطوة 2: طرح السؤال الأول: “لماذا حدث ذلك؟”

الإجابة الأولى غالبًا ما تكون سطحية أو مرتبطة بعوامل واضحة، مثل “انخفاض عدد الزبائن الجدد”.

الخطوة 3: متابعة السؤال “لماذا؟” لكل إجابة

استمر في طرح “لماذا؟” لكل إجابة تحصل عليها. الهدف هو تجاوز الأسباب الظاهرة والوصول إلى الأسباب الخفية أو المنهجية.

الخطوة 4: التوقف عند السبب الجذري القابل للمعالجة

عند الوصول إلى نقطة لا يمكن الاستمرار بعدها إلا بالدخول في افتراضات غير منطقية أو خارجة عن السيطرة، فقد وصلت إلى السبب الجذري القابل للتحكم.

الخطوة 5: بناء خطة عمل لمعالجة السبب الجذري

هنا تكمن الفائدة الكبرى. بدلاً من معالجة النتائج، يمكن الآن تصميم خطة استراتيجية تعالج السبب الجذري نفسه، مثل تحسين التدريب، أو تطوير نظام متابعة، أو إعادة هيكلة بعض العمليات.

خامساً: نماذج تطبيقية واقعية على تحليل المشكلات باستخدام الأسئلة الخمسة

نموذج في التعليم

• المشكلة: تدنّي نتائج الطلاب في اختبار الرياضيات.

• لماذا؟ لأن أغلب الطلاب لم يفهموا المفاهيم الأساسية.

• لماذا؟ لأن المعلم لم يغطِ المنهج بالكامل.

• لماذا؟ لأن الحصص كانت قصيرة وغير كافية.

• لماذا؟ لأن الجدول المدرسي لم يُصمم بطريقة فعالة.

• لماذا؟ لأن إدارة المدرسة لم تأخذ ملاحظات المعلمين بعين الاعتبار عند وضع الجدول.

السبب الجذري: ضعف التواصل بين الإدارة والمعلمين في تخطيط المنهج الزمني.

نموذج في العلاقات الاجتماعية

• المشكلة: الشعور بالتوتر المستمر في العلاقة مع أحد أفراد العائلة.

• لماذا؟ لأنه يتجنب الحديث المباشر.

• لماذا؟ لأنه يشعر بالانتقاد الدائم.

• لماذا؟ لأن الطرف الآخر يستخدم أسلوبًا هجوميًا عند الحديث.

• لماذا؟ لأنه يشعر بالإحباط من عدم تقدير جهوده.

• لماذا؟ لأنه لم يحصل على الدعم الكافي في الطفولة أو في علاقاته السابقة.

السبب الجذري: نقص التقدير والدعم العاطفي، وهو ما يستدعي بناء علاقة أكثر احتواءً وتفهّمًا.

نموذج في مجال إدارة الأعمال

• المشكلة: تأخر إطلاق منتج جديد.

• لماذا؟ لأن الفريق التقني لم يُنهِ الاختبارات في الوقت المحدد.

• لماذا؟ لأن متطلبات الاختبارات كانت غير واضحة منذ البداية.

• لماذا؟ لأن الاجتماع مع الفريق المختص لم يُعقد.

• لماذا؟ لأن مدير المشروع كان مشغولًا بمشاريع أخرى.

• لماذا؟ لأنه لا يوجد توزيع سليم للأولويات.

السبب الجذري: غياب إدارة فعالة للوقت وتوزيع المهام.

سادساً: الأخطاء الشائعة عند استخدام هذه التقنية

رغم بساطتها، إلا أن تطبيق “5 لماذا؟” بشكل غير دقيق قد يؤدي إلى نتائج غير صحيحة. ومن أبرز الأخطاء:

1. التوقف مبكرًا قبل الوصول إلى السبب الجذري

كثيرون يتوقفون عند السبب الثاني أو الثالث، مما يجعل الحلول سطحية وغير فعالة.

2. عدم صياغة الأسئلة بطريقة موضوعية

من المهم أن تكون الأسئلة غير مُحمّلة بالعواطف أو الافتراضات المسبقة، حتى لا تؤدي إلى تبريرات أو إلقاء اللوم.

3. التركيز على الأشخاص بدلاً من العمليات

الغرض من هذه التقنية ليس توجيه اللوم للأفراد، بل تحسين النظام ككل. يجب ألا تنتهي الأسئلة باتهامات بل بإجابات قابلة للتنفيذ.

سابعاً: التكامل بين “5 لماذا؟” وأدوات التحليل الأخرى

من الأفضل دمج هذه الأداة مع تقنيات أخرى مثل مخطط السبب والأثر (Ishikawa Diagram) أو تحليل “SWOT” للحصول على رؤية أكثر شمولاً. كما أن استخدام فرق متعددة التخصصات في جلسات التحليل يُضيف عمقًا وثراءً للنتائج.

جدول يوضح الفرق بين السبب السطحي والسبب الجذري

ثامناً: التأثير العميق لفهم جذور المشكلة على الشخصية والمؤسسات

التفكير التحليلي الذي توفره هذه التقنية لا يخدم فقط حل المشكلات الظاهرة، بل يُحدث تغييرًا نوعيًا في الطريقة التي يرى بها الأفراد والمؤسسات أنفسهم وعلاقاتهم. عندما يتعلم الإنسان النظر بعمق وراء المشكلات، يصبح أكثر قدرة على التحكم في حياته، وأكثر وعيًا بدوافعه الداخلية، وأكثر مرونة في التعامل مع الآخرين.

الخلاصة

تحليل المشكلات من خلال خمس أسئلة بسيطة ليس مجرد تقنية إدارية، بل هو منهج تفكير يمكن تطبيقه على كافة جوانب الحياة. يساعد على بناء استجابات ناضجة، وقرارات استراتيجية، ومهارات تواصل فعّالة. من خلال التكرار المنهجي لسؤال “لماذا؟”، يتم تجاوز القشور الظاهرة، والاقتراب من لبّ الحقيقة، حيث تكمن القدرة الحقيقية على التغيير.

المراجع:

1. Ohno, Taiichi. Toyota Production System: Beyond Large-Scale Production. Productivity Press, 1988.

2. Serrat, Olivier. “The Five Whys Technique.” Asian Development Bank Knowledge Solutions, 2009.