صبر الرسول على البلاء

مواقف الصبر على البلاء من حياة الرسول ﷺ

شهدت سيرة النبي محمد ﷺ أعظم صور الصبر والثبات على البلاء، فكانت حياته بأكملها مثالاً يُحتذى به في التوكل على الله، والرضا بقضائه، والاحتساب في وجه المحن والشدائد. ولم تكن ابتلاءاته عادية، بل تجاوزت كل مظاهر الألم البشري، ليكون نموذجًا ربانيًا للتعامل مع الابتلاءات بكل رحابة صدر وثبات نفس وروح إيمانية عالية، فكل موقف من مواقفه ﷺ في الصبر على البلاء يحمل في طياته دروسًا عميقة في الفقه والسلوك والإيمان.

الابتلاءات منذ الطفولة

ابتُلي الرسول ﷺ منذ نعومة أظفاره بفقدان من يعولونه؛ فقد مات والده عبد الله قبل ولادته، ثم توفيت والدته آمنة بنت وهب وهو لم يتجاوز السادسة من عمره، ليعيش بعد ذلك في كنف جده عبد المطلب، الذي سرعان ما توفاه الله، فانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب. هذه التنقلات المتكررة بين الكفلاء ومشاعر اليُتم التي رافقته في طفولته، لم تكن مجرد مصادفة بل تهيئة ربانية لنفس عظيمة ستُربى على الصبر والاعتماد على الله.

صبره على الفقر والمعاناة

لم يكن رسول الله ﷺ من أصحاب الثراء أو النعمة في بداية حياته، بل عاش فقيرًا يكد ويعمل بأمانة، وقد عمل في رعي الغنم ثم في التجارة، وكان يتعامل مع شظف العيش برضا وتسليم. وقد قال عنه عروة بن الزبير: “ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله ﷺ”، وكان فراشه من الحصير وخشبه من ليف النخل، وكانت تمر عليه الأيام دون أن يُوقد في بيته نار لطعام. هذا الصبر على الفقر لم يكن إلا مظهرًا من مظاهر زهده ورضاه التام بما قسم الله له.

صبره على إيذاء قريش

حين بدأ ﷺ دعوته إلى الله، واجه من قومه أشد أنواع التكذيب والسخرية والعدوان. اتهموه بالسحر والجنون، ورموه بالحجارة، وسلطوا عليه السفهاء والصبيان يؤذونه في الطرقات. ومن أبزر هذه المواقف، ما جرى له حين وضع عقبة بن أبي معيط سلى الجزور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة، فلم يتحرك حتى جاءت فاطمة الزهراء رضي الله عنها لتنزعه عنه، وهو في غاية الخشوع والدعاء.

كذلك ما لاقاه ﷺ من أهل الطائف عندما ذهب إليهم داعيًا، فرموه بالحجارة حتى أدموا قدميه، فجلس في ظل حائط يبث لربه شكواه، قائلًا:

“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس…”، ورفض أن يُهلك الله القوم رغم ما فعلوه، بل دعا لهم بالهداية.

صبره على فقد الأحبة

كانت حياة النبي ﷺ مليئة بالمواقف التي فقد فيها أحبته واحدًا تلو الآخر، لكنه لم يُعرف عنه الجزع ولا اليأس، بل الصبر والاحتساب. ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها بعد سنوات طويلة من مشاركته الهمّ والدعوة، وكان لذلك أثر عظيم في نفسه حتى سُمي العام بـ”عام الحزن”.

وفقد عمه أبي طالب الذي كان سنده في مكة، فاشتدت عليه محنة قريش بعد موته. ثم تبع ذلك فقده لأبنائه جميعًا في حياته، باستثناء فاطمة رضي الله عنها. وكان آخرهم إبراهيم، حيث قال ﷺ وهو يُقبّله ويبكي:

“إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون.”

صبره في الهجرة

عندما اشتد أذى قريش، أُمر النبي ﷺ بالهجرة إلى المدينة، وكانت الهجرة مليئة بالمخاطر والمشاق. خرج مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه في جنح الظلام، وتبعهما كفار قريش يريدون قتله، حتى وصلا إلى غار ثور. وبينما كان العدو قريبًا، قال النبي ﷺ لصاحبه المذعور:

“لا تحزن إن الله معنا.”

كان ذلك قمة في الصبر والتوكل على الله، رغم أن الخطر كان محدقًا بهما.

صبره في الحروب والمعارك

شارك النبي ﷺ بنفسه في العديد من الغزوات، وكان فيها مثالا أعلى للصبر والثبات. ففي غزوة أحد، جُرح وجهه الشريف، وكُسرت رباعيته، وسقط في حفرة، وقُتل عمّه حمزة، ولكنه ثبت على أرض المعركة، وحث أصحابه على الصمود.

وفي غزوة الأحزاب، حوصر المسلمون في المدينة من قِبل الأحزاب وقبائل كثيرة، وكان البرد شديدًا والجوع قاتلًا، وكان النبي ﷺ يحفر مع أصحابه الخندق، يربط حجرًا على بطنه من شدة الجوع، مرددًا: “اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة.” هذا الإيمان العميق والصبر الثابت في أحلك المواقف كان باعثًا للأمل في نفوس أصحابه.

صبره على الخيانات والمؤامرات

تعرض النبي ﷺ لخيانة اليهود ومعاهدات نقضها المشركون، ونجا من محاولات اغتيال، مثل ما فعله بنو النضير، حين أرادوا إسقاط حجر كبير عليه وهو يجلس بجانب الجدار، لكن الله أنجاه. كما حاولت امرأة يهودية تسميمه بلحم شاة، لكنه لم يغضب لنفسه بل عفا عنها، قائلًا: “ما كان الله ليسلطك علي.”

لقد صبر على تلك الخيانات والمؤامرات بإيمان راسخ ويقين مطلق بأن الله ناصره.

صبره في مرضه واحتضاره

من أشد ما مرّ بالنبي ﷺ من بلاء، مرضه الأخير، الذي اشتد عليه حتى كان يُغمى عليه مرارًا، وكان يقول: “إن للموت لسكرات.”، وكان يدعو الله دومًا أن يُثبته. وكان من شدة آلامه أنه استأذن زوجاته أن يُمكث في بيت عائشة رضي الله عنها، وكان يُعاني حرارة الحمى حتى كان يُصب عليه الماء ليخف ألمه.

ورغم كل هذا، ظل حريصًا على الصلاة، والقيام بواجب النبوة، حتى آخر لحظات حياته، فكان يُوصي بالأنصار وبالنساء وبالكتاب والسنة.

دلالة هذه المواقف على عظمة صبره

إن استقراء سيرة النبي ﷺ في مواجهة المحن والابتلاءات تكشف عن عدة خصائص متميزة لصبره، منها:

• صبره مع الاحتساب والرضا، فلم يكن صبره مجرد تحمل، بل رضا وتسليم كامل لله عز وجل.

• صبره المقترن بالإيجابية، فلم يدفعه البلاء إلى العزلة أو التوقف عن العمل، بل زاده نشاطًا وإصرارًا على نشر الدعوة.

• صبره التعليمي، إذ كان يغرس في أصحابه قيمة الصبر، ويربطه بالإيمان، وكان يقول: “عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير.”

• صبره كقائد، فلم يكن يختبئ خلف الصفوف في وقت البلاء، بل كان في المقدمة، مشاركًا الأمة محنتها وآلامها.

جدول لأبرز مواقف الصبر في حياة الرسول ﷺ

الخلاصة

الصبر في حياة النبي محمد ﷺ لم يكن مجرّد فضيلة خلقية، بل كان ركنًا من أركان شخصيته النبوية، ووسيلة لتحقيق مقاصد الدعوة، والتأكيد على أن البلاء جزء من سنة الحياة، وأن مواجهة المحن بصبر وإيمان هي السبيل إلى تحقيق الرضا الإلهي. فقد جمع ﷺ بين الصبر والرحمة، وبين الثبات والتسامح، ليخلّد للبشرية أعظم نموذج في كيفية الصبر على البلاء.

المراجع:

1. ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين.

2. ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد.