نشأة وتطور العلاقات العامة

مقدمة

تُعد العلاقات العامة من المفاهيم الحديثة نسبيًا في منظومة الإدارة والاتصال المؤسسي، لكنها أصبحت اليوم أحد الأركان الأساسية في الهيكل التنظيمي لأي مؤسسة ناجحة، سواء في القطاع العام أو الخاص. فالعلاقات العامة تمثل الجسر الذي يربط المؤسسة بجمهورها الداخلي والخارجي، وتلعب دورًا محوريًا في بناء الصورة الذهنية، وإدارة السمعة، والتواصل الفعّال مع مختلف الأطراف ذات العلاقة. لا تقتصر العلاقات العامة على نشر الأخبار أو إدارة الأزمات فحسب، بل تمتد لتشمل استراتيجية شاملة تهدف إلى تحقيق الانسجام والتفاهم بين المؤسسة وبيئتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ومن أجل فهم هذا المجال المعقد والديناميكي، لا بد من تتبع جذوره التاريخية وتطوراته المتلاحقة عبر العصور.

أولاً: جذور العلاقات العامة في العصور القديمة

على الرغم من أن مصطلح “العلاقات العامة” لم يظهر إلا في القرون الأخيرة، فإن الممارسات التي تشبه العلاقات العامة تعود إلى الحضارات القديمة مثل مصر الفرعونية، وبابل، والصين، واليونان، وروما. ففي مصر القديمة، استخدم الفراعنة النقوش على جدران المعابد والبرديات كوسيلة لترويج إنجازاتهم وإضفاء الطابع الإلهي على سلطتهم، ما يعكس أولى محاولات التواصل الممنهج مع الجمهور.

في الصين القديمة، استُخدمت الفلسفة الكونفوشية لترسيخ قيم الطاعة والانضباط والوفاء، وهو ما يمثل شكلًا بدائيًا من العلاقات العامة القائمة على نشر القيم المجتمعية. أما في اليونان، فقد وُجدت أساليب متقدمة نسبيًا في فن الإقناع، خاصة من خلال الخطابة العامة التي أتقنها الفلاسفة مثل أرسطو وسقراط وأفلاطون، حيث ظهرت مفاهيم مثل “الإيتوس” (الأخلاق)، و”الباثوس” (العاطفة)، و”اللوغوس” (المنطق)، كأسس للإقناع الجماهيري.

وفي روما القديمة، اتخذت العلاقات العامة شكلًا أكثر تنظيمًا من خلال استخدام النشرات الرسمية (Acta Diurna)، وهي أولى أشكال الصحافة الحكومية التي كانت تُعرض في الأماكن العامة لإعلام المواطنين بالأحداث الرسمية، وتعد هذه المبادرة من أولى صور التواصل المؤسسي.

ثانيًا: العلاقات العامة في العصور الوسطى

في العصور الوسطى، وخصوصًا في أوروبا، خفت بريق الممارسات العامة المنظمة نتيجة لهيمنة السلطة الدينية والإقطاعية، غير أن الكنيسة الكاثوليكية، ومن خلال إرسالياتها التبشيرية، مارست نوعًا من العلاقات العامة القائمة على نشر العقيدة والتأثير في الجماهير، عبر الرموز الدينية والاحتفالات والمهرجانات. كما أن بعض الملوك الأوروبيين استخدموا الشعراء والكتاب لترويج إنجازاتهم وتبرير حروبهم، وهي ممارسات يمكن اعتبارها محاولات مبكرة لإدارة السمعة.

في العالم الإسلامي، يمكن تتبع مظاهر العلاقات العامة من خلال خطب الجمعة، والرسائل الرسمية التي كان يبعث بها الخلفاء إلى شعوبهم، فضلاً عن اعتماد الدعوة والتبشير كوسائل تواصل مع الجماهير. وقد مثّلت الوقائع التاريخية مثل الفتوحات الإسلامية والرسائل التي كان يبعث بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والحكام نماذج متقدمة في فن الخطاب والإقناع.

ثالثًا: ظهور العلاقات العامة الحديثة في القرن التاسع عشر

يمكن اعتبار القرن التاسع عشر مرحلة تحول جوهرية في نشأة العلاقات العامة بوصفها علماً وممارسة منظمة، وذلك على خلفية التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي شهدها الغرب، خاصة الثورة الصناعية التي أدت إلى ظهور الطبقة العاملة، وتوسّع المدن، ونمو وسائل الإعلام.

في هذه المرحلة، بدأت الشركات الكبرى تواجه تحديات تتعلق بسمعتها، خاصة مع تزايد الإضرابات العمالية وحركات الاحتجاج. وقد دعت هذه الظروف إلى تبني وسائل أكثر تنظيمًا للتواصل مع الجمهور واحتواء الأزمات، ما مهّد الطريق لظهور أولى مكاتب العلاقات العامة. ومن أبرز الأمثلة في هذا السياق، تأسيس أول مكتب علاقات عامة في العالم عام 1900 في مدينة بوسطن الأمريكية على يد جورج مايكلز.

رابعًا: العلاقات العامة في القرن العشرين – مرحلة الاحتراف والتنظير

شهد القرن العشرين طفرة نوعية في العلاقات العامة، سواء من حيث الممارسة أو التنظير الأكاديمي. ففي عام 1906، برزت شخصية إيفي لي، الذي يُعد الأب الروحي للعلاقات العامة الحديثة. وقد عمل مع شركة روكفلر النفطية لإدارة أزمة إضراب عمال المناجم في ولاية كولورادو، واعتمد لأول مرة على مبدأ “الصدق والشفافية” في التعامل مع الصحافة والجمهور. وكتب أول إعلان رسمي بعنوان “بيان للجمهور”، أكد فيه أن على الشركات تقديم معلومات صادقة للجمهور.

ثم جاء إدوارد بيرنيز، ابن شقيق سيغموند فرويد، ليضيف البعد النفسي والاجتماعي إلى العلاقات العامة. وقد أصدر كتابه الشهير “الدعاية” عام 1928، حيث دعا إلى استخدام مبادئ علم النفس الجماعي في تشكيل الرأي العام. وقد لعب دورًا مهمًا في عدد من الحملات المؤثرة، مثل حملة الترويج لتدخين النساء في الولايات المتحدة، مستغلاً القيم الاجتماعية للحرية والمساواة.

وشهد منتصف القرن العشرين تأسيس العديد من الجمعيات المهنية مثل جمعية العلاقات العامة الأمريكية (PRSA) عام 1947، وبدأت الجامعات تقدم برامج أكاديمية متخصصة في هذا المجال، ما ساهم في تعزيز الطابع العلمي والاحترافي للمهنة.

خامسًا: تطور العلاقات العامة في العالم العربي

وصلت العلاقات العامة إلى العالم العربي متأخرة نسبيًا مقارنة بالغرب، لكنها سرعان ما تطورت، خاصة مع نشوء مؤسسات الدولة الحديثة في القرن العشرين، وتوسع القطاع الخاص. وقد بدأت الحكومات العربية تعتمد على العلاقات العامة لتحسين صورتها أمام شعوبها والعالم الخارجي، لا سيما بعد الاستقلال الوطني في كثير من الدول.

في ستينيات القرن الماضي، بدأت بعض الجامعات العربية مثل جامعة القاهرة والجامعة اللبنانية بإدراج مقررات العلاقات العامة ضمن مناهج الإعلام. كما تأسست بعض الجمعيات المهنية، وإن كانت بوتيرة أبطأ مقارنة بنظيراتها الغربية.

وقد ساهمت التطورات التكنولوجية وازدياد أهمية الإعلام في تسريع نمو العلاقات العامة في المنطقة، خاصة مع دخول الشركات متعددة الجنسيات، والطفرة النفطية التي شهدتها دول الخليج، حيث بدأت الحكومات والمؤسسات تدرك أهمية العلاقات العامة في إدارة الصورة الذهنية والسمعة الدولية.

سادسًا: العلاقات العامة في العصر الرقمي

مع بداية القرن الحادي والعشرين، دخلت العلاقات العامة مرحلة جديدة مدفوعة بالتحول الرقمي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي. لم يعد الجمهور مستقبلاً سلبياً للمعلومات، بل أصبح مشاركًا فعالاً في إنتاج وتوزيع المحتوى، وهو ما فرض على مؤسسات العلاقات العامة إعادة صياغة استراتيجياتها لتواكب هذه التغيرات.

أصبحت العلاقات العامة الرقمية تعتمد على أدوات التحليل الرقمي، وإدارة المحتوى، والتفاعل الفوري مع الجمهور، فضلاً عن بناء الهوية الإلكترونية للمؤسسة. كما أن الأزمات الإعلامية أصبحت تنتشر بشكل أسرع من ذي قبل، ما يتطلب استجابة سريعة وفعالة من قبل فرق العلاقات العامة.

وقد أدى هذا التحول إلى نشوء وظائف جديدة مثل “مدير السمعة الرقمية” و”أخصائي وسائل التواصل الاجتماعي”، إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي وأدوات تحليل البيانات في قياس فعالية الحملات الإعلامية.

سابعًا: مجالات تطبيق العلاقات العامة المعاصرة

تتنوع مجالات العلاقات العامة اليوم لتشمل قطاعات متعددة، منها:

ثامنًا: خصائص العلاقات العامة الحديثة

تتميز العلاقات العامة الحديثة بمجموعة من الخصائص التي تعكس تعقيد بيئة العمل وتنوع الجمهور وتعدد القنوات، ومن أبرز هذه الخصائص:

• التخطيط الاستراتيجي: لم تعد العلاقات العامة عملاً عشوائيًا، بل باتت تخضع لتخطيط طويل الأمد ومبني على أهداف محددة.

• الاعتماد على البحث والتحليل: يتم استخدام أدوات البحث الكمي والنوعي لفهم الجمهور وسلوكياته وتوقعاته.

• التكامل مع التسويق والإعلان: تتكامل العلاقات العامة مع الحملات التسويقية لبناء هوية شاملة للمؤسسة.

• الاستجابة السريعة والتفاعل الفوري: بفضل التكنولوجيا، أصبح التواصل لحظيًا ويتطلب استجابات فورية.

• إدارة الأزمات والسمعة: أصبحت إدارة الأزمات من أبرز المهام التي تقوم بها فرق العلاقات العامة، خصوصًا في العصر الرقمي.

تاسعًا: مستقبل العلاقات العامة

من المتوقع أن يستمر تطور العلاقات العامة في المستقبل بوتيرة متسارعة، في ظل ما يشهده العالم من تغيرات متلاحقة في التكنولوجيا والاتصال والسلوك الاجتماعي. وسترتبط كفاءة ممارسي العلاقات العامة بقدرتهم على:

• استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتحليل البيانات والتنبؤ باتجاهات الجمهور.

• إتقان مهارات التفاعل مع المجتمعات الرقمية وتوظيفها لصالح المؤسسة.

• تعزيز الشفافية والمسؤولية الاجتماعية كجزء من الاتصال المؤسسي.

• التركيز على الاتصال الإنساني وتعزيز القيم الأخلاقية في الممارسة المهنية.

خاتمة

العلاقات العامة ليست ترفًا إداريًا ولا نشاطًا دعائيًا سطحيًا، بل هي علم وفن واستراتيجية متكاملة تسهم في بناء جسور التواصل بين المؤسسة وبيئتها الداخلية والخارجية. وقد تطورت عبر العصور من ممارسات بدائية إلى منظومة احترافية تستند إلى المعرفة والتخطيط والتكنولوجيا. وفي ظل التحولات الرقمية المتسارعة، فإن مستقبل العلاقات العامة يحمل فرصًا وتحديات كبيرة تتطلب من الممارسين تطوير أدواتهم ومهاراتهم لمواكبة هذا العصر المتغير.

المصادر والمراجع:

1. Wilcox, D. L., & Cameron, G. T. (2014). Public Relations: Strategies and Tactics. Pearson.

2. Bernays, E. L. (1928). Propaganda. Ig Publishing.