تاريخ علم مصر وتطوره

تطور علم مصر عبر التاريخ

يُعَدّ العلم الوطني لأي دولة رمزًا سياديًا يحمل بين طياته دلالات تاريخية وثقافية وسياسية تعكس مراحل تطور الأمة وهويتها. ويُعتبر علم مصر أحد أبرز الرموز السيادية التي شهدت تحولات عديدة على مر العصور، متأثرًا بالأنظمة السياسية المختلفة التي تعاقبت على حكم البلاد. وقد مرّ هذا العلم بمراحل عديدة، منذ العصور القديمة وحتى العصر الجمهوري الحديث، حيث كان لكل مرحلة علمٌ يحمل رموزًا وألوانًا تعكس التوجهات الأيديولوجية والسياسية للدولة.

في هذا المقال المطوّل، نستعرض بشكل شامل ومفصل المراحل المختلفة التي مر بها علم مصر، منذ عهد الفراعنة حتى الجمهورية الحديثة، مبينين دلالات الألوان والرموز التي تميزت بها كل حقبة زمنية.

العلم في مصر القديمة (العصر الفرعوني)

لم يكن لدى المصريين القدماء علم وطني بالمعنى الحديث، لكن كان لكل إقليم أو محافظة (وكانوا يُسمّون بالأقاليم أو “نُواميس”) رمز خاص يُرفع في الاحتفالات أو المعارك. وكان هذا الرمز يُسمّى بـ”الراية” أو “الراية المقدسة”، وغالبًا ما كانت تتخذ شكل عصا طويلة يُعلّق عليها رمز الحيوان المقدس للإقليم أو شعار ديني معين.

مثال على ذلك، إقليم منف كان يرمز له بعلم يحمل رمز الإله بتاح، بينما إقليم طيبة كان يحمل رمز الإله آمون. ومع ذلك، فإن هذه الرموز لم تكن موحدة على مستوى الدولة، بل كانت دلالات محلية دينية تعكس هوية الإقليم لا الوطن بأسره. وكان يرافق هذه “الأعلام” مراسم وطقوس دينية، ما يُظهر مدى ارتباط العلم في هذه الفترة بالمقدس أكثر من السياسي.

العلم في العهد البطلمي (332 ق.م – 30 ق.م)

مع دخول الإسكندر الأكبر إلى مصر وبدء الحقبة البطلمية، أصبحت مصر تحت حكم ملوك من أصول يونانية. في هذه المرحلة لم يكن هناك علم خاص بمصر، بل كان العلم الإمبراطوري المقدوني يُرفع في البلاد. وكان يتكون من ألوان وإشارات مرتبطة بالأسرة المقدونية، وغالبًا ما كانت الرايات العسكرية تحمل رمز الإسكندر أو الشمس المقدونية ذات الأشعة.

وقد استمر هذا حتى مجيء كليوباترا السابعة، التي حاولت إحياء روح الاستقلال المصري، لكن من دون اعتماد علم وطني موحد يعكس هوية مصرية مستقلة، نظرًا لاستمرار ارتباط مصر بالإمبراطورية اليونانية-الرومانية.

العلم في العهد الروماني والبيزنطي (30 ق.م – 641 م)

مع تحوّل مصر إلى ولاية رومانية، ثم بيزنطية لاحقًا، لم يكن لها علم خاص. بل رُفعت أعلام الإمبراطورية الرومانية، والتي كانت تتضمن النسر الذهبي على خلفية حمراء، وهو شعار الجحافل الرومانية. وبعد انقسام الإمبراطورية، أصبحت الرايات البيزنطية التي تحمل الصليب واللون الأرجواني والأصفر هي السائدة.

العلم في العهد الإسلامي المبكر (641 – 1250 م)

بعد الفتح الإسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص، أصبحت البلاد تابعة للدولة الإسلامية، فحملت الرايات الإسلامية الموحدة. في البداية، كانت الراية الراشدة خضراء أو سوداء، مكتوبٌ عليها الشهادتان، دون رموز إضافية. في عهد الدولة الأموية، سادت الراية البيضاء، بينما اتخذ العباسيون اللون الأسود كراية لهم.

لم يكن لمصر علم مستقل عن الخلافة في هذه الفترة، لكنها كانت ترفع رايات الدولة الحاكمة، سواء كانت العباسية أو الطولونية أو الإخشيدية أو الفاطمية، الذين كانت لهم أعلامهم الخاصة رغم تبعيتهم الرمزية للخلافة.

مثال على ذلك، استخدمت الدولة الفاطمية اللون الأبيض في راياتها، بينما استخدم الأيوبيون الراية الصفراء تتوسطها النسر، ما يعدّ أول ظهور رمزي للنسر في التاريخ المصري الحديث.

العلم في عهد المماليك (1250 – 1517 م)

مع بروز الدولة المملوكية في مصر، والتي كانت دولة مستقلة فعليًا، بدأت تظهر أعلام خاصة بها. كانت هذه الأعلام تُزيَّن غالبًا بالكتابات القرآنية والزخارف الهندسية، دون وجود ألوان موحدة. وقد استخدمت المماليك الرايات السوداء والخضراء في أغلب الأحيان، خصوصًا في المعارك والمناسبات الرسمية، وغالبًا ما كان يُكتب عليها اسم السلطان المملوكي الحاكم.

ورغم عدم وجود علم وطني بالمعنى الحديث، فإن هذه الرايات شكلت تمثيلًا قويًا للسيادة المملوكية في المنطقة، خاصة مع انتصارهم في معركة عين جالوت وتوليهم حماية المقدسات الإسلامية.

العلم في العهد العثماني (1517 – 1798 م)

بعد ضمّ مصر إلى الدولة العثمانية، أصبحت تابعة للباب العالي في إسطنبول، واستخدمت العلم العثماني الرسمي، والذي كان أحمر اللون تتوسطه نجمة وهلال باللون الأبيض. وقد أصبح هذا العلم يُرفع على القلاع والمقرات الرسمية والموانئ.

وفي هذه المرحلة، لم يكن لمصر علم خاص بها، لكن بعض الباشاوات المحليين كانوا يستخدمون رايات خاصة خلال الحملات العسكرية، وهو ما يدل على وجود رمزي محدود للسيادة المحلية.

العلم في عهد محمد علي (1805 – 1848 م)

يُعد عهد محمد علي باشا نقطة تحول مركزية في التاريخ المصري الحديث، بما في ذلك الرموز الوطنية. فقد قام محمد علي بإنشاء جيش مصري نظامي، واعتمد علمًا خاصًا لمصر تمييزًا لها عن الدولة العثمانية.

تكوّن هذا العلم من ثلاثة أهلة بيضاء يتوسطها نجوم خماسية على خلفية حمراء. وقد تمثل هذا التصميم رمزًا للولايات الثلاث: مصر، السودان، والحجاز، كما تشير النجوم إلى النور والهداية. وكان العلم قريبًا في الشكل من العلم العثماني، لكنه مختلف في رمزيته وتكوينه، مما يدل على الطموح الاستقلالي لمحمد علي.

العلم خلال الخديوية والاحتلال البريطاني (1848 – 1922 م)

ظلّ العلم الذي أقره محمد علي مستخدمًا في عهد الخديوية، مع تعديلات طفيفة على شكل الأهلة والنجوم، وظل العلم الأحمر رمزًا لمصر حتى فترة الاحتلال البريطاني. خلال الاحتلال، أصرّت السلطات البريطانية على رفع العلم البريطاني بجانب العلم المصري، مما أثار مشاعر قومية قوية في الشارع المصري.

وقد أدى ذلك إلى بروز رايات شعبية في ثورة 1919، مثل العلم الأخضر الذي يحمل الهلال وثلاث نجوم بيضاء، والذي أصبح لاحقًا العلم الرسمي لمصر عند إعلان استقلالها جزئيًا عام 1922.

العلم في عهد المملكة المصرية (1922 – 1952 م)

مع إعلان مصر مملكة مستقلة تحت حكم الملك فؤاد الأول، تم اعتماد علم جديد للدولة، وهو العلم الأخضر الذي يتوسطه هلال أبيض بداخله ثلاث نجوم بيضاء. وقد حمل هذا العلم دلالات واضحة: فالهلال يرمز إلى الإسلام، والنجوم الثلاث ترمز إلى مصر والسودان والنوبة، كما فُسرت لاحقًا بأنها ترمز إلى المسلمين والمسيحيين واليهود كمكونات أساسية في المجتمع المصري آنذاك.

وقد استُخدم هذا العلم رسميًا حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، التي أنهت الحكم الملكي وأعلنت الجمهورية.

العلم في عهد الجمهورية وثورة 1952

مع قيام الجمهورية المصرية بقيادة مجلس قيادة الثورة، تم تغيير العلم الوطني ليعبر عن المرحلة الجديدة. وقد تم اعتماد علم مكوّن من ثلاثة ألوان أفقية: الأحمر والأبيض والأسود، وهي ألوان الوحدة العربية، وتتوسطه نجمة خماسية في البداية، ثم تغيرت لاحقًا إلى نسر صلاح الدين.

وقد رُفِع هذا العلم لأول مرة رسميًا في عام 1958 عند إعلان الوحدة بين مصر وسوريا تحت اسم “الجمهورية العربية المتحدة”، وقد وُضعت نجمتان خضراوان في العلم لترمز إلى الدولتين. وبعد فشل الوحدة، تم إزالة النجمتين، وتم اعتماد نسر صلاح الدين كرمز للدولة، ويتوسط العلم في اللون الأبيض.

العلم المصري الحديث (1984 – حتى اليوم)

في عام 1984، تم اعتماد الشكل الحالي للعلم المصري، والذي يتكوّن من ثلاثة ألوان أفقية متساوية: الأحمر في الأعلى، يليه الأبيض، ثم الأسود في الأسفل. ويتوسط اللون الأبيض “نسر صلاح الدين” باللون الذهبي.

وتمثل الألوان الثلاثة دلالات رمزية:

• الأحمر: يرمز إلى تضحيات الشعب المصري وكفاحه عبر التاريخ.

• الأبيض: يرمز إلى السلام والنقاء والثورات السلمية.

• الأسود: يرمز إلى الظلم والاستعمار الذي تم التغلب عليه.

أما نسر صلاح الدين، فهو أحد أقدم الرموز القومية الإسلامية، وكان موجودًا على قلعة صلاح الدين بالقاهرة. ويتخذ النسر وضعًا هجوميًا، ما يرمز إلى قوة وعزة الدولة المصرية.

مقارنة جدولية لتطور أعلام مصر

خاتمة توثيقية

يمثل علم مصر مرآة دقيقة لتاريخها السياسي والتحولات الكبرى التي مرت بها الدولة عبر العصور. فكل تغيير في العلم لم يكن مجرد تعديل رمزي، بل كان انعكاسًا مباشرًا للهوية الوطنية والسيادة والانتماء. ومن خلال تتبع تاريخ علم مصر، يمكن قراءة فصول من تاريخها الممتد، بدءًا من الحضارة الفرعونية، مرورًا بالحكم الأجنبي، وصولًا إلى الدولة الحديثة التي تثبّت علمها على جميع أراضيها باعتزاز وكبرياء.

المراجع:

1. مصطفى الفقي، تاريخ الرموز الوطنية في مصر، دار الشروق، القاهرة، 2009.

2. وزارة الثقافة المصرية، وثائق الثورة وتاريخ العلم المصري، الهيئة العامة للكتاب، 2015.