تأثير الإرساء على اتخاذ القرار

عملية الإرساء: المفهوم، التطبيقات، والآثار النفسية والسلوكية

تُعد عملية الإرساء (Anchoring) من المفاهيم النفسية والسلوكية المهمة التي تلعب دورًا حاسمًا في توجيه قرارات الأفراد وتشكيل إدراكهم للواقع. وقد ظهرت أهمية هذا المفهوم بشكل كبير في مجالات متعددة مثل علم النفس، التسويق، الاقتصاد السلوكي، التفاوض، التعليم، وحتى العلاقات الإنسانية. تُعرف عملية الإرساء بأنها ظاهرة معرفية يتم فيها استخدام معلومة أولية (أو رقم معين أو حدث أولي) كنقطة مرجعية للتأثير على تقييم أو حكم لاحق، مما يجعل الأفراد يميلون دون وعي إلى تعديل قراراتهم بناءً على تلك المعلومة أو القيمة الأولية.

تستند هذه الظاهرة إلى ميول العقل البشري في الاعتماد على المعلومة الأولى التي تُقدم له، حتى وإن كانت غير دقيقة أو غير مرتبطة بشكل مباشر بالقرار المراد اتخاذه. وتُعد عملية الإرساء واحدة من أكثر التحيزات المعرفية التي تم توثيقها ودراستها في علم النفس المعرفي والسلوكي، وهي تشكل حجر أساس لفهم سلوك الإنسان في بيئات مختلفة.

أولاً: المفهوم النفسي لعملية الإرساء

في علم النفس، يُنظر إلى الإرساء بوصفه اختصارًا معرفيًا (Heuristic) يساعد الإنسان على اتخاذ قرارات سريعة في بيئات معقدة أو مليئة بالمعلومات. فعندما يواجه الفرد موقفًا يتطلب اتخاذ قرار أو تقييم أمر ما، يقوم العقل بالبحث عن معلومة أولية تكون بمثابة مرساة فكرية تُبنى عليها باقي الأحكام.

هذه المعلومة قد تكون رقمًا (مثل سعر معين)، أو ذكرى سابقة، أو صورة ذهنية، أو حتى جملة سمعها الشخص من قبل. ومن هنا تبدأ عملية التعديل أو التقدير (Adjustment) بناءً على تلك المرساة، ما يؤدي في الغالب إلى نتائج متحيزة أو غير موضوعية.

ثانيًا: النشأة العلمية والاهتمام الأكاديمي

ظهر مفهوم الإرساء بشكل واضح في الأدبيات العلمية من خلال أعمال العالِمين دانيال كانيمان (Daniel Kahneman) وعاموس تفيرسكي (Amos Tversky) في سبعينيات القرن العشرين، واللذين يُعتبران من رواد علم النفس السلوكي. وقد شرحا كيف أن الناس عند مواجهة مهمة تقديرية أو اتخاذ قرار، يستخدمون نقاطًا مرجعية أولية ويعدّلون تقييماتهم حولها، مما يجعل هذه النقاط تتحكم بعمق في النتيجة النهائية.

وقد أسفرت أبحاث كانيمان وتفيرسكي حول الإرساء وغيره من التحيزات الإدراكية عن تغييرات جوهرية في فهمنا للقرارات الاقتصادية والسلوكية، ودفعت بعلم الاقتصاد التقليدي إلى تبني نماذج أكثر واقعية للطبيعة البشرية.

ثالثًا: تطبيقات عملية الإرساء في الحياة اليومية

1. في التسويق والتجارة

يُعد التسويق من أكثر المجالات التي تستفيد من مبدأ الإرساء. فعلى سبيل المثال، عندما يعرض متجر منتجًا بسعر مرتفع في البداية ثم يُخفضه لاحقًا إلى سعر أقل، فإن هذا السعر المرتفع يُصبح بمثابة “مرساة” ذهنية، تجعل السعر المنخفض يبدو صفقة رابحة حتى وإن لم يكن كذلك في الحقيقة. كما تُستخدم الإعلانات التي تُبرز الخصم من سعر مرتفع جدًا كأسلوب لترسيخ الإحساس بالقيمة.

2. في التفاوض

الإرساء يلعب دورًا حاسمًا في مفاوضات الرواتب أو العقود أو حتى الخلافات الشخصية. الشخص الذي يضع العرض الأول يكون في موقف قوة غالبًا، لأن العرض الأول يُصبح بمثابة نقطة مرجعية تحدد مسار النقاش. حتى لو كان العرض غير منطقي، فإن الطرف الآخر سيشعر بأن أي تعديل يجب أن يكون قريبًا منه.

3. في قرارات الشراء

عند مقارنة المنتجات، كثيرًا ما يقارن الناس السعر أو الجودة أو العلامة التجارية بناءً على أول منتج رأوه. فإذا تم تقديم منتج بمواصفات فاخرة أولًا، فإن المنتجات التي تليه تبدو متواضعة مقارنةً به حتى وإن كانت مناسبة أكثر من الناحية العملية.

4. في الإعلام والسياسة

وسائل الإعلام تستعمل الإرساء من خلال اختيارها لكلمات معينة أو أرقام عند تقديم معلومة. على سبيل المثال، تقديم حادثة ما كـ”أكبر كارثة منذ…” يرسخ في ذهن المتلقي سياقًا معينًا يقود تفكيره. في السياسة، يتم التلاعب بمفهوم الإرساء لصناعة صورة نمطية حول قضية أو مرشح سياسي.

5. في التعليم والتقييم

الأساتذة أو المقيمون قد يقعون في فخ الإرساء عند تقييمهم لعمل الطلاب. إذا بدأ أحد الطلاب بتقديم إجابة ممتازة، فإن هذا قد يؤثر على تقييم باقي الإجابات، والعكس صحيح. كذلك، فإن ترتيب عرض الأعمال أو طريقة تقديم الأسئلة يمكن أن تؤثر على أداء الطلاب.

رابعًا: الجوانب المعرفية والسلوكية لعملية الإرساء

1. ضعف التعديل

تشير الدراسات إلى أن الناس يميلون إلى إجراء تعديل بسيط جدًا من نقطة الإرساء، مما يجعل التقديرات النهائية منحازة بقوة نحو القيمة الأولية، حتى وإن كانت غير واقعية. هذا السلوك سببه في الغالب الكسل المعرفي أو غموض الموقف.

2. الإرساء اللاواعي

في كثير من الأحيان، لا يدرك الأفراد أنهم خضعوا لعملية الإرساء. هذا اللاوعي يجعل تأثير الإرساء أقوى، لأنه لا يُقابل بأي مقاومة عقلانية. حتى مجرد رؤية رقم عشوائي يمكن أن يؤثر على التقدير اللاحق دون أن يعي الشخص بذلك.

3. قابلية التأثر بالإطار السياقي

تأثير الإرساء يتعزز أو يضعف بناءً على السياق. فمثلاً، إذا تم تقديم رقم في بيئة توحي بالثقة أو السلطة (مثل عرض تقديمي من شخص خبير)، فإن الناس يميلون إلى قبوله كنقطة مرجعية. بينما إذا كانت البيئة مشوشة أو مشبوهة، فقد يتم رفضه كمرساة.

خامسًا: أمثلة من الواقع المدروس

سادسًا: كيف يمكن الحماية من تأثير الإرساء؟

بالرغم من أن عملية الإرساء قد تحدث بشكل غير واعٍ، إلا أن الوعي بوجودها يُعد الخطوة الأولى لتقليل تأثيرها. إليك بعض الاستراتيجيات الدفاعية:

• تحليل البدائل: عند اتخاذ قرار، يجب مقارنة الخيارات استنادًا إلى معايير موضوعية وليس الانطباع الأول.

• البحث المستقل: عدم الاكتفاء بالمعلومة الأولى، بل التحقق من المصادر وتحليل السياقات.

• المساءلة الداخلية: سؤال النفس ما إذا كانت المعلومة المقدمة منطقية بحد ذاتها أم أنها فقط مؤثرة بسبب ترتيب عرضها.

• التحرر من الإطار الزمني: تجنب اتخاذ قرارات سريعة عند تقديم معلومات أولية، لأن التسرع يُعزز من تأثير الإرساء.

سابعًا: التأثيرات المجتمعية والثقافية لظاهرة الإرساء

عملية الإرساء لا تؤثر فقط على الأفراد، بل تمتد لتُشكّل أنماطًا ثقافية وسلوكية في المجتمعات. فالمجتمعات التي تتبنى معايير مرجعية معينة (مثل قيمة الزواج، النجاح، الثروة) تقوم بترسيخ مرساة ثقافية تؤثر على قرارات الأفراد ضمن ذلك الإطار. كما تُستخدم الإرساءات الإعلامية بشكل ممنهج في بناء سرديات حول قضايا سياسية أو اجتماعية تؤثر في الرأي العام.

من جهة أخرى، تُعد المعتقدات الدينية أو الفلسفية شكلًا من أشكال الإرساء المعرفي، حيث تُشكل نقطة انطلاق لتفسير كل ما حول الفرد من أحداث وسلوكيات. هذا ما يفسر تباين ردود الأفعال من شخص لآخر تجاه نفس الموقف أو الظاهرة.

ثامنًا: مستقبل الأبحاث حول الإرساء

يتجه البحث العلمي اليوم إلى استكشاف أبعاد جديدة لعملية الإرساء تتجاوز الأرقام والمعلومات، لتشمل مشاعر الإرساء (Emotional Anchoring)، وإرساء الهوية، وحتى الإرساء الرقمي في بيئات الواقع الافتراضي. كما تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل الأنماط السلوكية الناتجة عن الإرساء، مما يعزز من فهمنا لكيفية تطوير أنظمة أكثر عدالة وفعالية في التعليم، والقضاء، والسياسة.

خاتمة

تُعد عملية الإرساء إحدى الأدوات النفسية العميقة التي تشكل قرارات الإنسان دون أن يدرك ذلك. ولأنها تسكن في مفترق الإدراك والبيئة، فهي قادرة على تغيير وجهات النظر، وتوجيه السلوك، والتأثير على الخيارات اليومية والمصيرية على حد سواء. إن فهم هذه الظاهرة وتفكيك آلياتها يمثل خطوة أساسية نحو تعزيز الوعي المعرفي، وتحقيق استقلالية القرار، وبناء مجتمعات أكثر وعيًا في عالم مليء بالمؤثرات.

المراجع

1. Tversky, A., & Kahneman, D. (1974). Judgment under Uncertainty: Heuristics and Biases. Science, 185(4157), 1124–1131.

2. Ariely, D. (2008). Predictably Irrational: The Hidden Forces That Shape Our Decisions. HarperCollins.