مواقف الأهل وديمومة الرباط الزوجي

تُعدّ العلاقة الزوجية من أبرز العلاقات الإنسانية التي تتطلب رعاية دائمة ومستمرة، لما لها من أثر مباشر في استقرار الأفراد وبناء المجتمعات. وبينما تتشكل هذه العلاقة أساساً بين الزوجين، إلا أن دور الأهل — من الطرفين — يمثل عاملاً محورياً في صلابتها أو هشاشتها. فمواقف الأهل قد تكون دافعة نحو الاستقرار والديمومة، أو على النقيض تمامًا، مهددة لاستمرار هذا الرباط الذي يجب أن يُبنى على المحبة، التفاهم، والدعم المتبادل.

أولاً: الأهل كمصدر دعم واستقرار في الحياة الزوجية

الأسرة الممتدة — أي أهل الزوج وأهل الزوجة — تُعدّ الخلفية الاجتماعية والنفسية التي يُبنى عليها مستقبل العلاقة الزوجية. وعندما يتسم موقف الأهل بالحكمة، والحياد، والدعم المعنوي، فإنهم يسهمون مباشرة في تعزيز التواصل بين الزوجين وتسهيل تخطي التحديات اليومية التي قد تواجههما.

من أبرز مظاهر الدعم الأسري البناء:

• النصيحة الحكيمة غير المتحيزة: حيث يقدم الأهل المشورة دون الانحياز لأحد الطرفين، مما يمنح العلاقة مناخًا من التوازن.

• الدعم العاطفي في الأزمات: في حال نشوب خلافات حادة بين الزوجين، يستطيع الأهل الذين يتحلون بالنضج أن يكونوا عنصر تهدئة ومصالحة.

• احترام الخصوصية: عدم التدخل في التفاصيل الدقيقة لحياة الزوجين يضمن بناء علاقة قائمة على الاستقلالية والاحترام.

ثانياً: الأهل كمصدر للتوتر والاضطراب

على الجانب الآخر، حين يتسم موقف الأهل بالتدخل السلبي أو النقد الدائم أو فرض الرأي، فإنهم يخلقون شرخًا في العلاقة الزوجية، ويضعون أحد الطرفين في موقف دفاعي أو هجومي، ما يُفضي إلى نزاعات متكررة.

من المظاهر السلبية المؤثرة:

• التدخل المستمر في القرارات الأسرية: خصوصاً فيما يتعلق بالتربية، الشؤون المالية، أو العلاقات الاجتماعية.

• التمييز بين الطرفين: مثل تفضيل أهل الزوج لابنهم أو أهل الزوجة لابنتهم، بما يُشعر الطرف الآخر بالاغتراب داخل العلاقة.

• نقل الخلافات بين الأسر إلى الحياة الزوجية: مما يُفاقم من مشاعر الحقد والتوتر بين الزوجين.

ثالثاً: تأثير الأهل في مراحل الزواج المختلفة

1. في مرحلة التأسيس

في السنوات الأولى من الزواج، يكون تأثير الأهل في أوجه، نظرًا لاعتماد الزوجين على أسرهم في الدعم المالي أو العاطفي. وهنا يبرز إما دور الأهل في التهيئة النفسية والاجتماعية للزواج، أو في إفشال هذه العلاقة قبل أن تترسخ.

• التشجيع على التفاهم: عبر تقديم نماذج جيدة ومُشجعة من العلاقات الزوجية.

• تقبل الطرف الآخر: يعكس مدى نضج الأسرة واستعدادها لاستيعاب الشخص الجديد كأحد أفرادها.

2. في مرحلة الأبوّة والأمومة

عند إنجاب الأطفال، يتكثف دور الأهل، سواء من خلال الدعم العملي في رعاية الأطفال أو من خلال التدخل المفرط في أساليب التربية. وقد يكون تدخلهم إما داعمًا لتوحيد وجهات النظر أو مسببًا للخلافات نتيجة فرض وجهات نظر تربوية متعارضة.

• المساعدة الواقعية: مثل تقديم يد العون في الحضانة أو الأمور المنزلية.

• احترام اختيارات التربية: وترك المجال للزوجين كي يربوا أبناءهم وفقًا لما يرونه مناسبًا.

3. في مرحلة النضج الزوجي

مع مرور الوقت، واكتساب الزوجين خبرة واستقلالية، يصبح دور الأهل أكثر رمزية. وهنا يكون الدعم المعنوي والتقدير هو ما يحتاجه الزوجان لا سيما في الأزمات الصحية أو التحديات الحياتية الكبرى.

• تعزيز الروابط بين الأجيال: من خلال المحافظة على التواصل الأسري واحتضان العائلة الممتدة.

• المساعدة في تخطي الأزمات الكبرى: مثل فقدان أحد الأبناء، أو التقاعد، أو المشاكل الصحية.

رابعاً: البنية الثقافية والاجتماعية وتأثيرها على مواقف الأهل

تلعب البنية الثقافية والاجتماعية دورًا كبيرًا في تحديد نمط تدخل الأهل في الحياة الزوجية. ففي المجتمعات العربية التقليدية، تتسم الروابط الأسرية بالقوة والامتداد، مما يضع الأهل في موضع تأثير كبير، سواء إيجابي أو سلبي. في حين تميل المجتمعات الغربية أو المتحضرة إلى إعلاء قيم الخصوصية والاستقلال، مما يقلص دور الأهل لصالح الاعتماد الذاتي.

في المجتمعات التي تشجع على التلاحم الأسري، فإن:

• الأهل يعتبرون أنفسهم جزءاً من العلاقة الزوجية، أحياناً لدرجة التماهي الكامل مع تفاصيل الحياة اليومية للزوجين.

• الثقافة تُحمّل الأهل مسؤولية “نجاح” أو “فشل” الزواج، ما يزيد من تدخلاتهم.

أما في المجتمعات التي تُشجع على الاستقلالية:

• فإن تدخل الأهل يُعد تجاوزاً غير مقبول.

• تُبنى العلاقة الزوجية بعيداً عن تأثير العائلة الكبيرة، مما يفسح مجالًا أكبر للحوار الداخلي بين الزوجين.

خامساً: العوامل النفسية والسلوكية المرتبطة بمواقف الأهل

من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن تحليل سلوكيات الأهل ضمن إطار الحاجة للسيطرة، الخوف من فقدان الأبناء، أو إسقاط التجارب الشخصية. وهذه الدوافع قد لا تكون ظاهرة بشكل مباشر، ولكنها تظهر في مواقف الأهل تجاه الزواج.

• الخوف من فقدان السيطرة: يدفع بعض الآباء للتشبث بأبنائهم حتى بعد الزواج، ما يؤدي إلى تدخلات مفرطة.

• إعادة إسقاط التجارب الشخصية: بعض الأهل الذين عانوا من زواج غير ناجح، يفرضون آرائهم بصورة قهرية.

• الشعور بالغيرة أو المنافسة: قد يظهر خاصة من الأم أو الحماة تجاه الزوجة أو الزوج.

سادساً: أثر مواقف الأهل على الصحة النفسية للزوجين

عندما تكون مواقف الأهل سلبية ومثقلة بالضغط والانتقاد، فإنها تُنتج آثاراً نفسية عميقة على كلا الزوجين. التوتر الدائم، فقدان الثقة بالنفس، الشعور بعدم الانتماء أو التقدير، كلها عوامل تؤثر في جودة الحياة الزوجية، وقد تقود في النهاية إلى الطلاق أو الانفصال العاطفي.

العواقب النفسية المحتملة تشمل:

• القلق الاجتماعي: بسبب الخوف من اللقاءات العائلية.

• الاكتئاب: نتيجة الشعور بالعجز أمام تدخلات الأهل.

• العزلة الزوجية: حين ينسحب أحد الطرفين من العلاقة بسبب الضغوط الخارجية.

سابعاً: استراتيجيات التعامل مع مواقف الأهل لضمان استمرارية الزواج

في سبيل الحفاظ على ديمومة الرباط الزوجي، يجب على الزوجين بناء استراتيجية تواصل واضحة مع الأهل، تتسم بالحزم من جهة والاحترام من جهة أخرى. من أبرز هذه الاستراتيجيات:

• وضع حدود صحية: بمعنى تحديد ما هو مقبول وما هو غير مقبول من تدخلات الأهل.

• التحدث بصوت واحد: على الزوجين التوحد في قراراتهما أمام الأهل، حتى لا يُستغل أحد الطرفين ضد الآخر.

• إشراك الأهل إيجابياً: عبر دعوتهم للمشاركة في المناسبات العائلية بصورة غير مهيمنة.

• طلب الاستشارة عند الحاجة فقط: مما يعزز من شعور الأهل بأن دورهم ما زال مهمًا، دون أن يكون تدخليًا.

ثامناً: أثر توازن العلاقة بين الأهل والزوجين على الأبناء

حين يشهد الأبناء علاقة صحية بين والديهم وأهاليهم، يتعلمون نماذج إيجابية لبناء العلاقات، مما يعزز لديهم مفاهيم الاحترام المتبادل، الحدود، والتعاون. أما في حالة التوتر المزمن بين الزوجين والأهل، فإن الأبناء غالبًا ما يعانون من اضطرابات عاطفية وسلوكية، بسبب البيئة المشحونة التي ينشأون فيها.

يُظهر الجدول التالي مقارنة بين أثر مواقف الأهل الداعمة مقابل المواقف السلبية على الحياة الزوجية:

تاسعاً: الأهل كطرف ثالث في إدارة الأزمات الزوجية

في حال وقوع الأزمات الكبرى — كخيانة، أو مشكلة مالية خانقة، أو مرض مزمن — يمكن للأهل أن يكونوا طرفًا ثالثًا في إدارة الأزمة، إما بتقديم حلول واقعية أو أن يكونوا أحد مصادر التعقيد. وهذا يعتمد كليًا على مدى حكمتهم، وتجردهم من الانحيازات.

• الدور الإيجابي: يتمثل في تقديم النصائح المتزنة، الدعم اللوجستي أو المالي، والمساعدة على الوصول إلى حلول.

• الدور السلبي: يكون في التحريض على الانفصال، أو تأجيج الصراع بدل تهدئته.

عاشراً: الحاجة إلى وعي اجتماعي جديد

تُشير الاتجاهات الاجتماعية الحديثة إلى ضرورة تحديث مفاهيم العلاقة بين الأهل والزوجين، بما يضمن احترام الحدود، وتقدير الاختلافات بين الأجيال، دون المساس برابطة الدم أو المحبة. وهنا يأتي دور التوعية المجتمعية، والتعليم الأسري، وورش التأهيل قبل الزواج، في بناء هذا الوعي الضروري.

من الضروري تشجيع الأسر على:

• تبني مفهوم الأسرة النووية المستقلة، دون انقطاع الصلة بالأسرة الممتدة.

• ممارسة النقد الذاتي وتقييم تدخلاتهم وتأثيرها الفعلي.

• احترام خصوصيات الجيل الجديد في أساليب العيش واتخاذ القرار.

الخاتمة

العلاقة بين الأهل والزوجين ليست ساحة للصراع أو السيطرة، بل هي شراكة اجتماعية يجب أن يُحكمها التقدير، الاحترام، والمساندة المتبادلة. مواقف الأهل، مهما بدت بسيطة، قد تحدد مصير الزواج بين الاستمرار أو الانهيار. لذا، فإن بناء علاقة صحية مع الأهل — قائمة على الاحترام والتوازن — هو أحد أركان ديمومة واستقرار الحياة الزوجية، وأساس لبناء أجيال تنعم بالأمان النفسي والاجتماعي.

المراجع:

1. Bowen, M. (1978). Family Therapy in Clinical Practice. Jason Aronson.

2. Kerr, M. E., & Bowen, M. (1988). Family Evaluation: An Approach Based on Bowen Theory. Norton.