بيير شويري: مؤسس مستعمرة مونتريال

في أوائل القرن السابع عشر، شهدت فرنسا عصر النهضة الروحية والثقافية، وبرز فيه عدد من الشخصيات التي كان لها دور بارز في تشكيل مشروع استعماري ذي بعد ديني وأخلاقي، وواحد من هؤلاء كان بيير شوهير، بارون فانكامب (Pierre Chevrier, baron de Fancamp)، الذي سنستعرض في هذا المقال حياته، مسيرته، وأثره التاريخي، بشكل مفصّل وموسع، مع التركيز على المعطيات الموثّقة وتحليل الأثر الذي خلفه.

النشأة والخلفية العائلية

وُلد بيير شوهير عام 1608 في باريس، وينحدر من عائلة نبيلة ذات نفوذ اجتماعي كبير. وجدّه آدم شوهير تقلّد عدة مناصب مهمة، منها منصب أمين الخزانة (président-trésorier) لفرنسا في بيكاردي، قبل أن يتوفى عام 1624. والدته رينيه دو بومكير تنحدر من عائلة نبيلة، وهي ابنة جون دو بومكير، سيد بوردنِه ورئيس المجلس الملكي.

أدى هذا النسب إلى توفير بيير لشروط مادية واجتماعية مميزة. عند بلوغه سن الرشد في سنة 1632، تولى بنفسه ممتلكات الأسرة، أبرزها إقطاع فانكامب في بيكاردي، الذي بنى عليه لقبه النبيل. fr.wikipedia.org+1fr.wikipedia.org+1

التعليم والتوجيه الروحي

تلقّى بيير تعليماً راقياً في كلية لا فلاش (Collège de La Flèche)، التي كان يديرها اليسوعيون. هناك، التقى بـجيروم لو روَييه دي لا دوفرسيير (Jérôme Le Royer de La Dauversière)، الذي أصبح مرشده الروحي وصديقه المقرب. تأثّر بيير بالروحانية المسيحية الإصلاحية، وإن لم يتجه نحو الحياة الكهنوتية مباشرة، بل فضل أن يوجّه ثروته وجهوده نحو الأعمال الخيرية والتخطيط الاستعماري الديني. fr.wikipedia.org

الدور المالي في إنشاء المستعمرة الكاثوليكية بمونتريال

في عام 1640، ساهم بيير بشكل مباشر في تمويل مشروع إنشاء مستعمرة رهبانية مقرها جزيرة مونتريال، الكنديّة الحديثة. مع شريكه القديم جيروم دي لا دوفرسيير، أنشأا جمعية سيدة مونتريال (Société Notre-Dame de Montréal)، وهي جمعية هدفها إنشاء مستعمرة لتنشيط الحياة الدينية والدعوة الكاثوليكية في “نوفيل فرنسا”.

قام شوهير عندئذ بشراء الأراضي من جان دو لوزون، عبر عقد مؤرخ بتاريخ 7 أغسطس 1640، تمّ التصديق عليه في 17 ديسمبر، رغم معارضة شركة مئة المساهمين، التي رأت أن البيع باطل لعدم تحقيق شروط استيطان كافية.

وقد اشتمل العقد على التزام بنقل 30 مستوطناً ورعاية مؤسسات دينية، تم تكليف جمعية “سيدة مونتريال” بإدارتها. سعى بيير من خلال الاستثمار إلى مد يده في بناء مستعمرات دينية، ونشر التعليم الكاثوليكي والمؤسسات الخيرية في الأراضي الجديدة.

قراره الكهنوتي والتحاقه بالرهبنة

بعد وفاة والدته في ديسمبر 1653، دخل بيير رهبانية القانونيين المنتظمين في دير سوسلوز، حيث حل محله أخيه جيروم كأحد القادة. في عام 1679، غادر الدير نحو باريس، ثم استقر في 1683 بدير مون فاليريان بالقرب من سوريَن. هناك أصبح مشرفاً على الرهبنة عام 1685. لكنّه استقر مجدّداً في باريس سنة 1690، في كلوستر سانت أونوريه، حيث بقي حتى وفاته في شهر يونيو 1692، ودفن في سرداب الكاتدرائية، التي لم تخلُ من أعمال التدمير خلال الثورة الفرنسية عام 1792.

خمس محطات بارزة في حياته

يمكن تلخيص أبرز أطوار حياة بيير شوهير في الجدول التالي:

التنوّع في الدور: بين السياسي والديني والاجتماعي

تجلّت أهمية بيير شوهير في عدة أدوار متداخلة:

1. داعم مالي قوي: أسهم بموارده في تمويل الاستيطان الكاثوليكي، وتأسيس بنية مادية وطبية ودينية في المستعمرات.

2. مؤسس جمعية اجتماعية–دينية: مع رفاقه البيانيين، أسس جمعية تحمل طابعاً مجتمعياً ودينياً عميقاً، لتوجيه نشاط المستعمرات.

3. رجل دين ذو خبرة إدارية: بفضل تأهيله وكفاءته الموروثة، أظهر قدرته على تنظيم مؤسسات دينية قوية وسريعة النمو.

4. رمز للحياة البسيطة المكرسة للعمل الخيري: رغم أسلوبه الديني المتدين، لم يعتبر نفسه متعالياً، بل اختار أسلوب حياة متواضعاً يسّرّه عن تكريس أمواله للخير.

أثره على مونتريال ثم على إفريقيا

بتمويله ومساهمته، وضع حجر الأساس لما أصبح لاحقاً مونتريال، وساهم في تكوين مجتمع رهباني قوي، حمل رسائل ثقافية ودينية تتجه نحو تعليم السكان ودعم الصحة والخدمات الاجتماعية. فالمستوطنة لم تكن اقتصاداً محضاً، بل نموّاً ثقافياً على يد الرهبان والمبشرين.

المشروع بقي نشطاً لقرون، إذ ظهر أثره عبر تكوين مدارس ومراكز دينية عزّزت من البُعد المسيحي في المنطقة.

تقييم التأثير التاريخي

يمكن القول إن بيير شوهير أدار أحد أهم المشاريع الكاثوليكية في أمريكا الشمالية في زمنه، إذ كانت مونتريال إحدى أوائل المستوطنات ذات الطابع الديني والمجتمعي المركّب. مشاريع مثل هذه كانت المصبّ الذي أسسّ لاحقاً لدول كندا الحديثة وما يُعرف بالولايات المتحدة، رغم وجود اختلافات، إلا أنّ الفكرة الأساسية للبناء الثقافي والاجتماعي أعطت دوراً موازياً للاقتصاد.

مع دخول شوهير الدير والتفرّغ للعبادة، انعكس تأثيره على قيادة دينية أكثر صرامة وتمسّكاً بالجذور اليسوعية التي تلقّنها في شبابه.

الخلاصة التاريخية

يشكّل بيير شوهير، بارون فانكامب، نموذجاً متميزاً للتقاطع بين النبل الروحي والعمل الكنسي والمبادرات الاجتماعية الاستيطانية. من رجل نبيل ومتعلم، إلى رجل دين وممول ومدافِع عن منظومة قيم وجذور تأسيسية لمجتمع مستعمر، ثم شيخ روحي متفرّغ، شكّل ملامحاً كثيرة للمشهد الديني والاستعماري في القرن السابع عشر. ترك إرثاً ملموساً في مونتريال ومبادرات لاحقة نافعت الإنسانية عبر التعليم والخدمة المجتمعية.

وبذلك، يدخل اسمه ضمن قائمة أعلام كانت لهم بصمة حضارية واضحة، تعكس الوجه المسيحي–الانساني لحركة التوسع الكاثوليكي في “نوفيل فرنسا”، وتوجه نحو تأسيس مجتمعات قوامُها العمل والبناء، وليست السيطرة الاقتصادية فحسب.

المراجع

1. صفحة ويكيبيديا الفرنسية: Pierre Chevrier, baron de Fancamp (1608–1692) ca.linkedin.com+15fr.wikipedia.org+15fr.wikipedia.org+15