إن كتاب “بيغ مدي: عبر المسيسيبي عبر قلب أمريكا” الذي ألفه هول ب. سي. وود سي. تي. يمثل رحلة أدبية ساحرة وممتعة عبر نهر المسيسيبي، حيث يستحضر القراء معه تاريخ وحاضر هذه المجرى المائي الذي يُعد العمود الفقري للولايات المتحدة. يُعتبر هذا العمل تكملة حديثة لكتاب مارك توين الكلاسيكي “الحياة على نهر المسيسيبي”، الذي كان بمثابة سجل حي لنهر المسيسيبي العريق في أواخر القرن التاسع عشر.
يبدأ “بيغ مدي” من منابعه في مينيسوتا، ليأخذنا في جولة تمتد إلى لويزيانا، عابراً قلب أمريكا. يوثق الكتاب التنوع الكبير في المناطق التي يمر بها النهر، بدءًا من الواقعية العملية في منطقة ليك ووبغون الأسطورية في مينيسوتا إلى مدينة إيست سانت لويس الفقيرة والغنية بموسيقى الجاز والبلوز. يعرض الكتاب الحياة اليومية للأشخاص الذين يعيشون على ضفاف النهر، مثل الرجال المسنين الذين يرتدون قبعات دبس الملطخة بالعرق ويتبادلون قصص الفيضانات في المتاجر الصغيرة عند تقاطعات الطرق الريفية.
يأخذنا المؤلفان أيضاً إلى الطرق السريعة الأسطورية مثل الطريق السريع 61، الذي خلدته أغاني بوب ديلان، وكذلك إلى مزارعي الدلتا الذين يكافحون لكسب رزقهم على الأرض الملوثة بالمبيدات الحشرية، وصولاً إلى التراث الغني للسكان الكاجون في الخلجان المخفية في لويزيانا. يستمر النهر في التدفق، محتفلاً بحياة الناس ومناطقهم، ومتأملاً في التحديات التي تواجههم والتي شكلت مسارات حياتهم، كما شكلت هي مسار النهر ذاته.
بالإضافة إلى كونه تصويرًا ملونًا للحياة على ضفاف نهر المسيسيبي، يقدم “بيغ مدي” إعادة إحياء قوية للتاريخ الذي تدفق مع مياهه. يستعرض الكتاب قصص المستكشفين الأوائل وسعيهم العبثي وراء الممر الشمالي الغربي الأسطوري، والطيارين على متن القوارب البخارية ومقامري الأنهار في حقبة مارك توين، والقبائل المختلفة التي خاضت معارك من أجل حقها في العيش على شواطئ النهر.
كما يتناول الكتاب الكوارث البيئية الحديثة التي تهدد مستقبل المسيسيبي، مثل “المنطقة الميتة” في دلتا النهر، التي يبحر عبرها قباطنة الناقلات وسط كوابيس بيئية تثير القلق حول مستقبل هذا النهر العريق. تتضمن هذه المنطقة مستويات منخفضة للغاية من الأكسجين في الماء بسبب التلوث، ما يجعل الحياة البحرية شبه مستحيلة فيها، وهو ما يعكس الجانب المظلم من التطور الصناعي والزراعي على حساب البيئة.
يغطي “بيغ مدي” بامتياز هذه القضايا بعمق وسعة، مقدماً صورة حية لثقافة النهر وتاريخه الاجتماعي والسياسي والبيئي. الكتاب يمثل احتفالاً نابضاً بالحياة لأعظم أنهار أمريكا، ويُعد خليفة جديرًا بكتاب مارك توين “الحياة على نهر المسيسيبي”. يعتبر هذا العمل شهادة مؤثرة على التجربة الأمريكية الفريدة، تلك التجربة التي صاغها النهر بقدر ما صاغتها هي.
يتعمق الكتاب أيضاً في تأثير النهر على الأدب والموسيقى والفنون، مسلطاً الضوء على الشخصيات التي ألهمتها ضفافه، بدءاً من الأدباء مثل مارك توين إلى الموسيقيين الذين ابتكروا ألحان الجاز والبلوز التي تعكس عمق وتجربة الحياة على النهر.
ختاماً، يمكن القول إن “بيغ مدي” ليس مجرد كتاب تاريخي، بل هو عمل يجسد الروح الحية لنهر المسيسيبي، وينقل للقارئ ليس فقط الحقائق التاريخية، بل أيضاً النبض الحي للحياة على ضفافه. يقدم هذا العمل تجربة قراءة ثرية وممتعة، تجعل القارئ يشعر بأنه يسير بنفسه على ضفاف النهر، مستمتعاً بمشاهده وأصواته، ومتأملاً في تاريخه العريق والمستقبل المجهول الذي ينتظره.