بر الوالدين في حديث النبي

شرح حديث “قال أمك؟ قال: ثم من؟”

في عالم الحديث النبوي الشريف، نجد أن هناك العديد من الأحاديث التي تحمل في طياتها دروسًا عظيمة وفوائد جليلة، والتي يتطلب فهمها التمعن والتفسير العميق للسياق والمحتوى. من أبرز هذه الأحاديث حديث “قال أمك؟ قال: ثم من؟”، الذي يعد من الأحاديث الهامة التي تتناول موضوعًا بالغ الأهمية، وهو بر الوالدين، وخاصة الأم.

1. السياق التاريخي للحديث

يرتبط هذا الحديث بنماذج عميقة من الأخلاق الإسلامية التي ترشد المسلمين إلى أهمية الإحسان إلى الوالدين. ورد هذا الحديث في كتب الحديث الكبرى مثل “صحيح البخاري” و”صحيح مسلم”، ويُذكر أن هذا الحديث تم نقله في سياق مواقف مختلفة تجسد قيمة البر.

في الحديث، يروي الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولى الناس بحق الصحبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمك”. ثم كرر الصحابي السؤال قائلاً: “ثم من؟” فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: “أمك”. ثم كرر الصحابي السؤال للمرة الثالثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمك”، ثم قال في المرة الرابعة: “أبوك”. هذا الحديث يعكس بشكل قوي قيمة الأم في الإسلام، ويكشف عن مكانتها العالية في حيات المسلم.

2. دلالة الحديث

حديث “قال أمك؟ قال: ثم من؟” يُظهر لنا بوضوح عظمة الأم في الإسلام، وكيف أن برها وحسن معاملتها يتصدر قائمة أولويات المسلم. فالإجابة المتكررة من النبي صلى الله عليه وسلم “أمك” تشير إلى أن الأم هي الأحق والأولى في بر ابنها، كما أنها أحق بالاهتمام والتقدير.

من خلال تكرار النبي صلى الله عليه وسلم كلمة “أمك” ثلاث مرات، يُرَكِّز على أهمية الأم في حياة المسلم، ويؤكد أن مكانتها لا تضاهى، ولا يمكن تجاوزها. الأم تحمل في قلبها حبًا وعطفًا لا حدود له، وقد عانت من أجل تربية أبنائها، ولها فضل عظيم في تربية الأمة الإسلامية.

3. البر بالأم في الإسلام

البر بالأم في الإسلام لا يتوقف عند مجرد احترامها أو تقديم المساعدة لها في بعض الأحيان، بل يتطلب الاهتمام المستمر والرعاية طوال حياة المسلم. فالأم هي التي حملت، ووضعت، واحتملت الآلام والمصاعب من أجل أن يخرج طفلها إلى الحياة. من هنا جاء هذا الحديث ليؤكد أن الإسلام يضع الأم في مكانة عالية للغاية.

الحديث أيضًا يوضح أهمية التكرار في البر، فالمسلم مطالب بأن يظهر حبه وتقديره للأم في كل مرحلة من مراحل حياته، سواء في الصغر أو في الكبر. في مرحلة الطفولة، ينبغي على الابن أن يحسن إلى أمه بالمعاملة الطيبة، بينما في مرحلة الشيخوخة ينبغي أن يستمر في العناية بها ورعايتها، بل ويتعين عليه بذل أقصى جهده لخدمتها.

4. مقارنة بين بر الأم وبر الأب

في حين أن الحديث يركز على “أمك” في ثلاث مرات متتالية، نجد أن الجواب الأخير يتعلق بالأب، الذي يأتي في المرة الرابعة: “أبوك”. هذه المقارنة توضح حقيقة مهمة في الإسلام، وهي أن الأم تحظى بمكانة خاصة جدًا، لكنها لا تنفي أهمية الأب في حياة الأبناء.

الإسلام يعترف بالجهود الكبيرة التي يبذلها الأب، ومع ذلك، فإن الأم تبقى في مرتبة أعلى في هذا السياق. قد يتساءل البعض عن السبب في تكرار ذكر الأم ثلاث مرات في مقابل ذكر الأب مرة واحدة، ويعزى ذلك إلى الدور الاستثنائي الذي تلعبه الأم في تربية الأطفال، وخاصة في مراحل الحمل والولادة والرضاعة، حيث تتحمل من الأعباء ما لا يستطيع الأب تحمله.

5. دور الحديث في تعزيز القيم الإسلامية

من خلال هذا الحديث، يُرسخ النبي صلى الله عليه وسلم قيمة البر في قلب المسلم. فالإسلام لا يقتصر على عبادة الله وحده، بل يشمل أيضًا بر الوالدين، وحسن المعاملة معهما، إذ أن هذا يشكل جزءًا أساسيًا من بناء شخصية المسلم.

من خلال هذا الحديث، يتعلم المسلم أن البر ليس مجرد فعل عابر، بل هو نمط حياة يجب أن يتبعه المسلم في علاقاته اليومية، وخاصة مع الأم. فالإحسان إليها يعد من أعظم الأعمال التي يحبها الله سبحانه وتعالى.

6. التفسير الفقهي للحديث

تفسير الفقهاء لهذا الحديث يؤكد أن بر الأم يجب أن يكون الأولوية في حياة المسلم، ويرتبط ذلك بواجبات الابن نحو أمه في كل مرحلة من حياته. فقد أوضح علماء مثل ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” أن تكرار “أمك” ثلاث مرات يشير إلى ما تعانيه الأم من مشقة أكبر من الأب في مراحل الحمل والولادة والتربية.

أما بالنسبة للأب، فقد جاء ذكره في المرة الرابعة ليؤكد على أهمية الأب أيضًا، وإن كان يأتي بعد الأم في الأولوية. هذا لا يعني التقليل من أهمية الأب، ولكن الفقهاء أكدوا أن الأب يجب أن يحظى بالاحترام والرعاية بعد الأم مباشرة، فهو مصدر الأمان والاستقرار في الأسرة.

7. الحديث وحسن المعاملة في المجتمع الإسلامي

الحديث يوضح بشكل جلي ضرورة أن يعكس المسلم هذا الفهم في سلوكه اليومي. فالحديث عن بر الوالدين لا يقتصر على الدعوة للمشاعر الداخلية من حب واحترام، بل يشمل أفعالًا ملموسة في الحياة اليومية. من خلال هذا الحديث، يتعلم المسلم كيف يعبر عن امتنانه للأم والأب عبر التقدير والمساندة الفعلية.

وقد أضاف العديد من المفسرين أن البر بالأم يشمل أوجه عدة، منها: مساعدتها في الأعمال المنزلية، تقديم العون المالي في حال الحاجة، والإصغاء إليها في أمورها الشخصية والعائلية. في حين يتجلى بر الأب في الاعتراف بفضل الأب في توفير الحياة الكريمة وتوجيه الأبناء نحو الطريق الصحيح.

8. الآثار الاجتماعية لحديث “قال أمك؟ قال: ثم من؟”

يُسهم هذا الحديث في بناء مجتمع قائم على الاحترام المتبادل بين الأفراد، وخاصة بين الأبناء والوالدين. في المجتمعات الإسلامية، يعتبر البر بالوالدين من القيم الأساسية التي يجب أن يتبناها الجميع. الحديث يرسل رسالة قوية لجميع الأفراد بأن العلاقة مع الوالدين تتجاوز مجرد واجب ديني إلى ضرورة إنسانية تحترم حقوق الأب والأم.

9. استنباطات وتوجيهات من الحديث

من خلال الحديث، يمكن استخلاص العديد من التوجيهات التي تساهم في بناء مجتمع مسلم مترابط، ومنها:

• أولوية الإحسان للأم: ينبغي للمسلم أن يولي أمه أكبر اهتمام في حياته، كما يحرص على تقديم كل ما بوسعه لراحتها وسعادتها.

• الاعتراف بفضل الأب: بالرغم من أن الحديث ركز على الأم، إلا أن الأب يبقى له دور كبير لا ينبغي نكرانه. الإسلام يعزز مكانة الأب في حياة الأبناء.

• الاستمرارية في البر: البر لا يتوقف عند مرحلة معينة من الحياة، بل يجب أن يستمر طوال العمر.

10. خاتمة

يعد حديث “قال أمك؟ قال: ثم من؟” من الأحاديث العظيمة التي تؤكد على قيمة بر الوالدين في الإسلام. من خلال هذا الحديث، يتضح لنا الدور الاستثنائي الذي تلعبه الأم في حياة المسلم، وكيف أن الإسلام يعلي من مكانتها في المجتمع. ولكن في ذات الوقت، لا يغفل الحديث عن أهمية الأب ودوره الكبير في بناء الأسرة والمجتمع.