آفة الواسطة.. المعوق الأكبر لتحقيق العدالة الاجتماعية

تعتبر الواسطة ظاهرة اجتماعية متجذرة في العديد من المجتمعات، وهي أحد العوائق الكبرى التي تقف في وجه تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة. هذه الظاهرة التي تكرس التفاوت والتمييز بين الأفراد، وتحد من فرص التنمية الحقيقية، تفتت نسيج المجتمعات وتضعف الثقة في المؤسسات، مما يؤدي إلى آثار سلبية عميقة على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

في هذا المقال سوف نتناول ظاهرة الواسطة من جميع جوانبها، متعقبةً أسبابها ودوافعها، مؤشرات انتشارها، آثارها على المجتمع والاقتصاد، ودورها في تعطيل تحقيق العدالة الاجتماعية. كما سنعرض رؤية تحليلية لكيفية التصدي لهذه الآفة التي تنخر في جسد المجتمعات، معتمدين على الأدلة والدراسات التي تناولت هذه القضية.

تعريف الواسطة ومظاهرها في المجتمعات

الواسطة هي استخدام علاقات شخصية، أو نفوذ اجتماعي أو سياسي، لتجاوز القوانين والأنظمة أو للحصول على امتيازات غير مستحقة. يمكن أن تظهر الواسطة في مجالات متعددة مثل الوظائف العامة، الحصول على الخدمات الحكومية، الترقيات، التعيينات، التعليم، وحتى في المحاكم وأنظمة العدالة.

تتميز الواسطة بأنها تهدر مبدأ المساواة في الفرص، وتخلق نظامًا غير عادل يعتمد على العلاقات الشخصية بدلاً من الكفاءة أو الجدارة. ومن مظاهرها الشائعة:

• توظيف الأشخاص بناءً على العلاقة الشخصية بدلاً من الكفاءة.

• منح تراخيص أو تصاريح بطرق غير نظامية.

• تفضيل أشخاص معينين في التعيينات والترقيات.

• تسهيل الحصول على خدمات حكومية أو تعليمية بطرق غير قانونية.

• تأثيرها في القرارات القضائية لصالح أقارب أو أصدقاء.

أسباب انتشار الواسطة

يمكن حصر الأسباب التي تؤدي إلى انتشار ظاهرة الواسطة في عدة عوامل مترابطة:

1. ضعف المؤسسات والقوانين

حين تكون القوانين غير واضحة أو غير صارمة، أو حين تتسم المؤسسات بالفساد والضعف الإداري، تصبح الأرض خصبة لازدهار الواسطة. ضعف الرقابة وانعدام الشفافية يجعلان من السهل استغلال العلاقات الشخصية لتجاوز القواعد.

2. ضعف ثقافة العدالة والمساواة

تغيب الوعي بقيم العدالة الاجتماعية والمساواة يؤدي إلى تقبل المجتمع بفكرة الواسطة كوسيلة طبيعية للحصول على الحقوق أو الامتيازات. في بعض الثقافات، قد تُعتبر الواسطة نوعًا من حسن العلاقات الاجتماعية أو المعروف، مما يعزز استمرارها.

3. الظروف الاقتصادية الصعبة

في المجتمعات التي تعاني من ارتفاع معدلات البطالة والفقر، يصبح اللجوء إلى الواسطة وسيلة ضرورية للبقاء أو لتأمين مستقبل أفضل. فالضغط الاقتصادي يدفع الأفراد للبحث عن طرق غير نظامية للحصول على فرص عمل أو خدمات.

4. ضعف الثقة في العدالة والمؤسسات

عندما يشعر المواطن أن المؤسسات غير عادلة أو أنها تميل لفئة معينة، فإن اللجوء للواسطة يصبح خيارًا مفضلاً لديه لتجنب التهميش أو الإقصاء.

أثر الواسطة على المجتمع والعدالة الاجتماعية

تعتبر الواسطة حجر عثرة كبير أمام تحقيق العدالة الاجتماعية، لما لها من تأثيرات عميقة على مختلف الأصعدة:

1. تقويض مبدأ المساواة

تدمر الواسطة مفهوم المساواة أمام القانون والفرص. حيث يتم تهميش أصحاب الكفاءات الحقيقية لصالح من يمتلكون علاقات أو نفوذ. هذا التمييز يولد شعورًا بالظلم والاستياء، ويهدد الوحدة الوطنية.

2. إضعاف الثقة بالمؤسسات

الواسطة تقلل من مصداقية المؤسسات الحكومية والخاصة، مما يؤدي إلى تراجع الثقة بها. هذه الثقة المنهارة تؤدي إلى عزوف المواطنين عن المشاركة في بناء المجتمع والاعتماد على آليات رسمية.

3. الإضرار بالتنمية الاقتصادية

من خلال تعيين غير الأكفاء في مواقع حيوية أو منح امتيازات غير مستحقة، تعاني المؤسسات من تدني الإنتاجية وضعف الأداء. وهذا بدوره يعوق التنمية الاقتصادية ويعزز الفساد.

4. تشجيع الفساد واستشراءه

الواسطة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفساد، حيث يتم استغلال المناصب والعلاقات لتحقيق مكاسب شخصية. هذه الظاهرة تخلق دائرة مفرغة من الفساد يصعب كسرها بدون إصلاحات جذرية.

5. إضعاف الحراك الاجتماعي

تمنع الواسطة تحقيق العدالة الاجتماعية التي تتيح لكل فرد فرصًا متساوية للصعود الاجتماعي والاقتصادي. وهذا يؤدي إلى تراكم الطبقات الاجتماعية وتثبيت الفوارق.

الأبعاد القانونية والسياسية للواسطة

الواسطة ليست مجرد ظاهرة اجتماعية بل لها أبعاد قانونية وسياسية تؤثر على النظام ككل.

من الناحية القانونية

غالبًا ما تكون الواسطة مخالفة صريحة للقوانين التي تنص على مبدأ تكافؤ الفرص ومنع التمييز. إلا أن ضعف تنفيذ هذه القوانين أو غياب العقوبات الرادعة يجعلها غير فعالة.

من الناحية السياسية

الواسطة مرتبطة بشبكات نفوذ سياسية، تستغلها الأحزاب أو الأفراد لتعزيز مصالحهم الشخصية على حساب المصلحة العامة. هذا الأمر يؤدي إلى تسييس الوظائف والمناصب، ويؤثر على استقلالية القرار في المؤسسات.

كيف تؤثر الواسطة على قطاعات المجتمع المختلفة

الواسطة لا تقتصر على مجال واحد، بل تؤثر على جميع القطاعات:

سبل مكافحة ظاهرة الواسطة

لمكافحة الواسطة بفعالية يجب تبني استراتيجية شاملة تعتمد على عدة محاور:

1. تعزيز الشفافية والمساءلة

ضرورة إنشاء أنظمة واضحة وشفافة للإجراءات، مع رصد دوري للأداء، وضمان مساءلة كل من يثبت تورطه في ممارسات الواسطة.

2. إصلاح المؤسسات والقوانين

تحديث القوانين وتطبيقها بصرامة، مع وضع آليات رقابة مستقلة تمنع التلاعب والتجاوزات.

3. نشر الوعي الثقافي

تنفيذ حملات توعية مستمرة تعزز من قيم العدالة والمساواة، وتغير الثقافة المجتمعية التي تتقبل الواسطة.

4. دعم الحوكمة الرشيدة

تفعيل مبادئ الحوكمة الرشيدة في الإدارة العامة، بما يضمن تكافؤ الفرص ويحارب المحسوبية.

5. استخدام التكنولوجيا

التحول الرقمي في تقديم الخدمات الحكومية يمكن أن يقلل من التدخلات الشخصية ويزيد من الشفافية.

الخلاصة

ظاهرة الواسطة تمثل عائقًا جوهريًا في طريق تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. إن استمرار هذه الظاهرة يؤدي إلى تآكل ثقة المجتمع في المؤسسات، ويعزز الفساد والتفاوت الطبقي، مما يعيق بناء مجتمع متماسك يقوم على مبادئ العدالة والمساواة. ولذلك، فإن محاربتها تتطلب جهودًا متكاملة تبدأ من تطوير القوانين والمؤسسات، مرورًا بتغيير الثقافة الاجتماعية، وصولًا إلى بناء نظام حكومي شفاف ومسؤول قادر على فرض القانون دون استثناءات. فقط بهذه الخطوات يمكننا أن نحقق مجتمعًا أكثر عدلاً وازدهارًا.

المصادر والمراجع

• كتاب: “العدالة الاجتماعية والتنمية”، تأليف: د. محمد عبد السلام.

• تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2023 حول الفساد والواسطة في الدول النامية.