الهوية الوطنية وبناؤها

تُعد الهوية الوطنية من الركائز الأساسية التي يستند عليها كيان الدولة الحديثة، فهي تمثل الإطار الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يوحّد أفراد المجتمع تحت مظلة الانتماء المشترك. وبناء الهوية الوطنية ليس عملية آنية أو عفوية، بل هو مشروع طويل الأمد تشترك فيه مؤسسات الدولة كافة، ويتطلب تضافر جهود الأفراد والمجتمع المدني لتعزيز الشعور بالانتماء، وتكريس القيم والمبادئ التي تشكّل وجدان الأمة وتحدد معالم شخصيتها الحضارية.

يبدأ بناء الهوية الوطنية من الاعتراف بالتعددية الثقافية واللغوية والدينية داخل المجتمع، والقدرة على صهر هذا التنوع في بوتقة الانتماء الواحد، دون إقصاء أو تهميش لأي مكوّن. ويُعد التعليم من أهم الأدوات التي يعتمد عليها في ترسيخ قيم الهوية الوطنية، حيث تلعب المناهج الدراسية دوراً محورياً في غرس المفاهيم الأساسية كالوطن، والانتماء، والولاء، والمسؤولية، والتعايش. ومن خلال التربية الوطنية والتاريخ والجغرافيا والدين، يتعرف الناشئة على رموز دولتهم، وتاريخهم الوطني، وإنجازات أمتهم، ما يُسهم في بناء وعي جمعي موحَّد.

تلعب اللغة الرسمية دوراً مركزياً في تعزيز الهوية الوطنية، فهي الوسيلة التي يتم عبرها نقل المعرفة، وبناء الخطاب العام، والتواصل بين أفراد المجتمع. فاللغة ليست فقط أداة للتخاطب، بل هي حاملة للثقافة والتقاليد والقيم. ومن هنا تأتي أهمية حماية اللغة الوطنية وتطويرها، وضمان استخدامها في كل مجالات الحياة العامة، من التعليم إلى الإعلام إلى الإدارة.

إلى جانب اللغة، تُعد الرموز الوطنية مثل العلم، والنشيد الوطني، والدستور، والشخصيات التاريخية، عناصر جوهرية في تشكيل الوعي الوطني. وتعمل هذه الرموز كمرجع مشترك يجتمع حوله أبناء الوطن الواحد، ويُستحضر في المناسبات الرسمية والشعبية، ما يُعزّز من قوة الانتماء ويعمّق الشعور بالوحدة والتماسك.

يلعب الإعلام الوطني دوراً جوهرياً في بناء الهوية الوطنية عبر إنتاج محتوى يعكس خصوصية المجتمع، ويُبرز الإنجازات، ويُدافع عن الثوابت، ويُسهم في مواجهة حملات التشويه أو الاختراق الثقافي الخارجي. فالإعلام يُعدّ أداة تشكيل الوعي الجمعي، ويملك القدرة على صناعة رموز وطنية، وتكريس خطاب وطني جامع، وإبراز الصورة الإيجابية عن الوطن داخلياً وخارجياً.

لا يمكن إغفال أهمية الثقافة في بناء الهوية الوطنية، إذ تمثل الفنون، والأدب، والموسيقى، والمسرح، والسينما، أدوات فعالة في نقل القيم، واستعادة الذاكرة الجماعية، وصناعة الوعي، وتجديد الروح الوطنية. وتمثل المهرجانات الوطنية، ومعارض الكتاب، والأنشطة الثقافية الكبرى مناسبات تُعزز من اللحمة المجتمعية، وتُبرز التعدد الثقافي كقيمة وطنية مضافة، لا كعامل انقسام أو تهديد.

كذلك يُعدّ التاريخ الوطني مصدر فخر ومرجعية للهوية، حيث تسهم دراسة الفترات المشرقة من مسيرة الدولة والأمة في تعزيز الثقة بالذات الجماعية، واستحضار القيم التي وحّدت الناس، ومقاومة الاستعمار، وبناء المؤسسات. ويُشكل سرد التاريخ من منظور وطني أداة ضرورية لمقاومة المحاولات الهادفة إلى تشويه الهوية، أو زرع مفاهيم تغريبية تفصل الإنسان عن محيطه الثقافي والاجتماعي.

في سياق متصل، تُعتبر القوانين والسياسات الوطنية أحد أركان ترسيخ الهوية الوطنية، وذلك من خلال سن تشريعات تحفظ الحقوق وتُرسخ العدالة وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو المناطقية. فالهوية الوطنية تقوم على المواطنة المتساوية، التي تضمن مشاركة الجميع في الحياة العامة، وصياغة المستقبل المشترك.

ويُعدّ الانتماء إلى الوطن أحد أهم ثمار الهوية الوطنية الراسخة، ويتجلى هذا الانتماء في الاستعداد للتضحية في سبيل الوطن، والمساهمة في بنائه، واحترام رموزه، والحفاظ على مقدراته. كما يتجلى في الالتزام بالقوانين، والمشاركة الإيجابية في الشأن العام، والانخراط في العمل التطوعي، والدفاع عن مصالح الأمة في مختلف المحافل.

مع تطور وسائل التواصل والانفتاح الثقافي الهائل الذي يشهده العالم اليوم، أصبحت الهوية الوطنية تواجه تحديات حقيقية تتمثل في العولمة، وتعدد المرجعيات الثقافية، والانجذاب إلى أنماط حياة وقيم أجنبية. ولذا، فإن حماية الهوية الوطنية لا تعني الانغلاق أو الانعزال، بل تعني بناء شخصية وطنية منفتحة على العالم، واثقة من ذاتها، متصالحة مع ماضيها، ومزودة بالأدوات المعرفية التي تتيح لها التفاعل الإيجابي مع الآخر دون التفريط في مقوماتها.

تُعد المشاركة السياسية من أبرز تجليات الهوية الوطنية في الحياة العامة، حيث يُعبّر المواطن عن انتمائه من خلال ممارسة حقه في الانتخاب، والانخراط في الحياة السياسية، واحترام نتائجها، والمساهمة في الرقابة الشعبية. كما أن تعزيز الشعور بالمسؤولية الجماعية تجاه قضايا البيئة، والصحة، والتعليم، والنهوض بالاقتصاد الوطني، يندرج ضمن ممارسات الهوية الوطنية الفاعلة.

كذلك تلعب المؤسسات الدينية دوراً في تعزيز قيم الانتماء والولاء للوطن من خلال خطاب ديني وسطي، يدعو إلى المحبة والتعاون والعدل، ويربط بين الإيمان الصادق وخدمة الوطن، وينبذ الفتن والانقسامات والطائفية التي تهدد النسيج الاجتماعي، وتُضعف الروح الوطنية.

من جهة أخرى، يُمثل الشباب القوة المحركة لبناء وصيانة الهوية الوطنية، فهم الفئة الأكثر تأثراً بالتغيرات الثقافية والإعلامية، ومن ثمّ فإن تمكينهم، وتوعيتهم، وتوفير فرص التعليم والعمل لهم، يُعد من العوامل الأساسية في صون الهوية الوطنية من التآكل أو الذوبان.

إن بناء هوية وطنية متينة لا يكون عبر فرض قوالب جاهزة أو شعارات فارغة، بل عبر تنمية الوعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وترسيخ القيم الوطنية في المؤسسات، وربط المواطن بوطنه من خلال علاقة تقوم على الحقوق والواجبات، وعلى أساس التقدير المتبادل بين الدولة والمجتمع.

الجدول التالي يُبيّن أبرز الركائز الأساسية لبناء الهوية الوطنية:

في الختام، الهوية الوطنية ليست شعاراً يُرفع في المناسبات، بل هي بنية عميقة تتكون عبر الزمن، وتتطلب جهوداً متواصلة لصيانتها وتنميتها في ظل المتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم. وإن الدول التي تدرك أهمية هذه الهوية، وتعمل على تعزيزها من خلال التعليم، والثقافة، والسياسات الشاملة، هي وحدها القادرة على تحقيق الاستقرار، والنهضة، والازدهار الحقيقي.

المراجع:

1. برهان غليون، “الهوية والانتماء”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012.

2. جلال أمين، “ماذا حدث للمصريين؟”، دار الشروق، 1998.

3. اليونسكو، “الثقافة والتنمية: أبعاد الهوية في عصر العولمة”، تقارير اليونسكو، 2015.

4. المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، “الشباب والهوية الوطنية”، 2019.

5. تقارير وزارة التربية والتعليم في دول الخليج العربي حول المناهج الوطنية، 2020–2024.