العملة الأوكرانية: نظرة شاملة على تاريخها وتطورها الاقتصادي

المقدمة

العملة هي إحدى الركائز الأساسية لأي اقتصاد وطني، وتلعب دورًا حيويًا في تنظيم الدورة الاقتصادية والتبادل التجاري داخل الدولة وخارجها. في الحالة الأوكرانية، تمثل العملة الوطنية رمزًا للسيادة والاستقلال، كما تعكس التحولات العميقة التي شهدتها البلاد منذ استقلالها عن الاتحاد السوفييتي. تسمى العملة الأوكرانية بـ”الهريفنيا” (Hryvnia) ويرمز لها بـ(₴)، وهي ليست فقط وسيلة للتبادل وإنما تحمل دلالات سياسية واقتصادية وثقافية عميقة.

تهدف هذه الدراسة الموسعة إلى تقديم تحليل شامل حول العملة الأوكرانية من مختلف الزوايا، بدءًا بتاريخها وتطورها، مرورًا بخصائصها الفنية والاقتصادية، وصولًا إلى دورها في الاقتصاد الكلي، وسياساتها النقدية، والتحديات التي تواجهها في ظل الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية المعاصرة.

أولًا: خلفية تاريخية للعملة الأوكرانية

الحقبة السوفييتية وما قبلها

قبل استقلال أوكرانيا في عام 1991، كانت البلاد تستخدم الروبل السوفييتي كعملة رسمية، حيث لم يكن لأوكرانيا كيان نقدي مستقل خلال فترات الحكم السوفييتي. حتى قبل ذلك، شهدت الأراضي الأوكرانية تداولًا متنوعًا من العملات، تأثرًا بالقوى السياسية والاقتصادية المسيطرة على المنطقة عبر التاريخ، بدءًا بالإمبراطورية الروسية، وصولًا إلى الحكم النمساوي المجري في بعض الأقاليم الغربية.

خلال الفترة القصيرة من استقلال أوكرانيا في عام 1917 بعد الثورة البلشفية، تم إصدار عملة محلية مؤقتة عرفت باسم “الهريفنيا الأوكرانية” آنذاك، لكن سرعان ما اندثرت بعد عودة السيطرة السوفييتية.

بعد الاستقلال: تأسيس الهريفنيا الحديثة

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، شرعت أوكرانيا في بناء كيانها المالي والاقتصادي المستقل. وفي البداية، تم اعتماد ما يُعرف باسم “الكربوفانيتس” كعملة مؤقتة بين عامي 1992 و1996، لكنها واجهت تضخمًا مفرطًا وفقدت قيمتها بسرعة، ما أدى إلى الحاجة المُلحّة لإطلاق عملة وطنية مستقرة.

في سبتمبر 1996، تم إدخال الهريفنيا رسميًا كعملة وطنية لأوكرانيا، لتحل محل الكربوفانيتس بمعدل تحويل بلغ 100,000 كربوفانيتس مقابل 1 هريفنيا. وقد تم تثبيت سعر صرف الهريفنيا مقابل الدولار الأمريكي كوسيلة للتحكم في التضخم وكسب ثقة الأسواق.

ثانيًا: الخصائص الفنية للعملة

فئات العملة

تنقسم الهريفنيا إلى فئتين رئيسيتين: العملات المعدنية (كوبييك) والأوراق النقدية.

العملات المعدنية:

العملة الفرعية للهريفنيا هي “كوبييك” (Kopiyka)، وتُقسم الهريفنيا إلى 100 كوبييك. ولكن اعتبارًا من عام 2019، تم سحب العديد من فئات الكوبييك من التداول (مثل فئة 1 و2 و5 كوبييك)، بسبب انخفاض قيمتها الحقيقية وتكلفة إنتاجها التي تجاوزت قيمتها الاسمية.

حاليًا تشمل الفئات المعدنية المتداولة:

الأوراق النقدية:

تتراوح الأوراق النقدية للهريفنيا بين فئات صغيرة وأخرى كبيرة لتلبية احتياجات التداول اليومي والعمليات المالية الكبرى.

الفئات المتداولة تشمل:

• 1 هريفنيا

• 2 هريفنيا

• 5 هريفنيا

• 10 هريفنيا

• 20 هريفنيا

• 50 هريفنيا

• 100 هريفنيا

• 200 هريفنيا

• 500 هريفنيا

• 1000 هريفنيا (تم إصدارها عام 2019)

التصميم والرموز

تحمل الأوراق النقدية الأوكرانية صورًا لأهم الشخصيات التاريخية والثقافية في تاريخ أوكرانيا، مثل الشاعر “تاراس شيفتشينكو”، والقائد العسكري “بوهدان خملنيتسكي”، والعالم “غريغوري سكوفورودا”. أما الجهة الخلفية فتُظهر معالم معمارية ومواقع ثقافية ذات رمزية وطنية.

ثالثًا: سياسة البنك الوطني الأوكراني تجاه الهريفنيا

السياسة النقدية والاستقرار المالي

يتولى البنك الوطني الأوكراني (NBU) مسؤولية إدارة العملة الوطنية، من خلال التحكم في عرض النقود، وضبط معدلات الفائدة، وتحقيق الاستقرار في الأسعار. يعتمد البنك على سياسة استهداف التضخم، وهي سياسة نقدية حديثة تعتمد على مراقبة توقعات التضخم أكثر من التركيز على سعر الصرف.

تهدف هذه السياسة إلى:

• المحافظة على استقرار الأسعار

• ضمان استقرار العملة

• تعزيز الشفافية

• جذب الاستثمارات

منذ عام 2015، أصبح البنك الوطني أكثر استقلالية في اتخاذ قراراته، وشرع في سلسلة من الإصلاحات تهدف إلى تحديث القطاع المالي وضمان مرونة الاقتصاد في مواجهة الصدمات الخارجية.

رابعًا: أداء الهريفنيا في الأسواق

سعر الصرف مقابل العملات الأجنبية

تأثر سعر صرف الهريفنيا بشكل كبير بالتقلبات الجيوسياسية والاقتصادية. وقد شهدت الهريفنيا عدة مراحل من التراجع أمام الدولار الأمريكي واليورو، خصوصًا في الفترات التالية:

• الأزمة المالية العالمية عام 2008

• الأزمة السياسية والاقتصادية عام 2014 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم

• الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022

على سبيل المثال، كان سعر صرف الهريفنيا في عام 2008 حوالي 5 هريفنيا لكل دولار، لكنه تدهور ليصل إلى أكثر من 25 هريفنيا لكل دولار في 2015. وفي عام 2022، تجاوز 36 هريفنيا للدولار مع استمرار الحرب.

التدخلات الحكومية

عمد البنك الوطني الأوكراني إلى تطبيق آليات متنوعة لضبط سعر الصرف، منها:

• التدخل المباشر في السوق

• استخدام احتياطيات النقد الأجنبي

• رفع أسعار الفائدة الأساسية

• فرض قيود مؤقتة على تداول العملات الأجنبية

خامسًا: التحديات التي تواجه الهريفنيا

التأثر بالصراعات الجيوسياسية

تُعد الحرب الروسية الأوكرانية من أبرز العوامل التي أثّرت سلبًا على استقرار الهريفنيا، إذ أدت إلى انهيار الثقة في الاقتصاد الأوكراني، وزيادة المخاطر الاستثمارية، وهروب رؤوس الأموال الأجنبية. كما أسهمت في زيادة التضخم وتراجع الناتج المحلي الإجمالي، مما أضعف العملة الوطنية.

التضخم وارتفاع الأسعار

تعاني أوكرانيا منذ سنوات من معدلات تضخم مرتفعة، كانت في بعض الفترات تتجاوز 20%، ما انعكس على القوة الشرائية للهريفنيا وعلى مستوى معيشة المواطنين. ويرتبط التضخم بعدة عوامل مثل:

• ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية

• تدهور العملة المحلية

• سياسات الدعم الحكومي

• التكاليف اللوجستية المرتفعة بسبب الحرب

الدولار الأمريكي والاقتصاد الموازي

رغم الجهود الرسمية لتعزيز استخدام الهريفنيا، إلا أن الدولار الأمريكي لا يزال مستخدمًا بشكل واسع في التعاملات التجارية والعقارية غير الرسمية. وتُعزى هذه الظاهرة إلى ضعف ثقة المواطنين بالعملة الوطنية، وتفضيلهم العملات الصعبة لحماية مدخراتهم.

سادسًا: جهود تحديث النظام النقدي

التحول الرقمي

اتجه البنك الوطني الأوكراني في السنوات الأخيرة إلى رقمنة النظام المالي، من خلال:

• تعزيز الدفع الإلكتروني

• دعم البنوك الرقمية

• تطوير محفظة رقمية للهريفنيا

• إطلاق مشروع عملة رقمية للبنك المركزي (CBDC)

تهدف هذه الجهود إلى تقليص الاقتصاد الموازي، وتحسين الكفاءة المالية، وزيادة الشفافية في التعاملات المالية.

مكافحة الفساد وغسل الأموال

بالتعاون مع المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي (WB)، كثفت أوكرانيا جهودها لمكافحة غسل الأموال وتعزيز الشفافية المالية، مما يدعم استقرار العملة ويعزز ثقة المستثمرين.

سابعًا: الهريفنيا كأداة للهوية الوطنية

تلعب الهريفنيا دورًا رمزيًا في ترسيخ الهوية الوطنية الأوكرانية، خاصة في ظل النزاعات السياسية مع روسيا. وتُعتبر العملة عنصرًا من عناصر الاستقلال والسيادة، وتعكس رموزها وشخصياتها المحتفى بها على الأوراق النقدية الثقافة والتاريخ الأوكراني العريق.

كما تقوم وزارة التربية والتعليم بإدراج مواضيع عن الهريفنيا في المناهج التعليمية لتعزيز الوعي المالي والوطني لدى الطلاب.

ثامنًا: مستقبل الهريفنيا

رغم التحديات العديدة، فإن مستقبل الهريفنيا يعتمد على جملة من العوامل الحيوية، منها:

• انتهاء الحرب واستعادة الاستقرار السياسي

• تنفيذ إصلاحات هيكلية في الاقتصاد

• دعم دولي متواصل من المؤسسات المالية الكبرى

• إعادة بناء البنية التحتية وتعزيز الصادرات

• استمرار استقلالية البنك المركزي وتحديث سياساته

في ظل سيناريوهات إيجابية، من الممكن للهريفنيا أن تستعيد جزءًا من قيمتها، خاصة إذا تعززت الثقة الداخلية والخارجية بالاقتصاد الأوكراني، وتم الحفاظ على استقرار مالي متين.

خاتمة

تُعد الهريفنيا أكثر من مجرد عملة في أوكرانيا؛ فهي تمثل نضال دولة من أجل الاستقلال والسيادة، وتجسد محاولات مستمرة لبناء اقتصاد حديث قادر على مواجهة التحديات العالمية والمحلية. ورغم التحديات المتعددة التي واجهتها الهريفنيا منذ إنشائها، فإنها لا تزال رمزًا للصمود والهوية الوطنية الأوكرانية، وتشكل محورًا أساسيًا في النقاشات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والمالية في البلاد.

المراجع:

1. National Bank of Ukraine – www.bank.gov.ua

2. International Monetary Fund – Ukraine Country Reports – www.imf.org