الهاتف المحمول والسرطان: حقيقة أم خرافة

لا علاقة بين السرطان والهاتف المحمول

في العقود الأخيرة، شهدت المجتمعات العالمية تزايدًا ملحوظًا في استخدام الهواتف المحمولة، حتى باتت هذه الأجهزة مكوِّنًا أساسيًا من مكونات الحياة اليومية. ومع ازدياد انتشارها، أثيرت مخاوف وتساؤلات حول تأثيراتها الصحية المحتملة، ولا سيما علاقتها بمرض السرطان. وقد أُجريت مئات الدراسات والأبحاث في هذا السياق لتحديد ما إذا كان هناك ارتباط مباشر بين استخدام الهواتف المحمولة وخطر الإصابة بالأورام الخبيثة. وفي ضوء الأدلة العلمية الحالية، يتضح أن هذه المخاوف لا تستند إلى أساس علمي قوي، إذ لم تُثبت الدراسات وجود علاقة سببية بين الهواتف المحمولة والسرطان.

الموجات الكهرومغناطيسية للهواتف المحمولة: طبيعتها وتأثيرها البيولوجي

تصدر الهواتف المحمولة موجات كهرومغناطيسية ضمن نطاق الترددات الراديوية (Radiofrequency – RF)، وهي تقع في الطرف غير المؤين من الطيف الكهرومغناطيسي. وتُعد هذه الموجات غير قادرة على تحطيم الروابط الكيميائية في الحمض النووي أو إحداث طفرات جينية تؤدي إلى السرطان، بخلاف الأشعة المؤينة مثل الأشعة السينية وأشعة غاما، التي تُعد مسببة معروفة للتسرطن.

ووفقًا للمفاهيم الفيزيائية والبيولوجية، فإن تعرض الأنسجة البشرية لموجات الراديو من الهاتف المحمول لا يتسبب في إحداث تلف حراري أو غير حراري على النحو الذي يؤدي إلى تطور الأورام. ويُستخدم ما يُعرف بمعدل الامتصاص النوعي (SAR) لقياس كمية الطاقة التي يمتصها الجسم من هذه الموجات، وهو يخضع إلى لوائح تنظيمية صارمة من قبل الهيئات المختصة، مثل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) واللجنة الفيدرالية للاتصالات (FCC).

مراجعات شاملة لأبحاث السرطان والموبايل: نتائج غير داعمة للعلاقة

خضعت العلاقة بين استخدام الهاتف المحمول والسرطان لدراسات وبحوث مكثفة شملت التجارب الحيوانية والدراسات الوبائية والمراجعات المنهجية. من أبرز هذه الدراسات “دراسة الإنترفون” الدولية (Interphone Study) التي أجرتها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع المركز الدولي لأبحاث السرطان (IARC) والتي شارك فيها 13 بلدًا. أظهرت نتائج الدراسة، التي نُشرت عام 2010، عدم وجود زيادة ذات دلالة إحصائية في خطر الإصابة بورم الدماغ (الورم الدبقي) أو الورم السحائي لدى مستخدمي الهواتف المحمولة، حتى أولئك الذين استخدموها لفترات طويلة.

كما أجرت الوكالة الوطنية الأمريكية لبرنامج السميات (National Toxicology Program – NTP) دراسات مكثفة على الحيوانات، وتضمنت تعريض الفئران والجرذان لمستويات عالية من الإشعاع الراديوي لفترات طويلة. وعلى الرغم من ملاحظة بعض التأثيرات المحدودة في دراسات NTP، فإنها لا تُعتبر دليلاً قاطعًا على التأثير المسرطن، نظرًا لاختلاف نماذج الجرعات والبيئة بين التجارب الحيوانية وواقع الاستخدام البشري. كما لم تتمكن دراسات أخرى لاحقة من إعادة إنتاج هذه النتائج، مما يقوض من موثوقيتها العلمية.

موقف الهيئات الصحية العالمية من العلاقة المفترضة

أصدرت كبرى المؤسسات الصحية العالمية تقييماتها المستقلة حول هذا الموضوع، وجاءت مواقفها متناغمة في تأكيد عدم وجود دليل علمي قاطع على أن استخدام الهواتف المحمولة يسبب السرطان:

• منظمة الصحة العالمية (WHO): أكدت أنه بناءً على الأدلة الحالية، لا توجد علاقة مؤكدة بين استخدام الهاتف المحمول وزيادة خطر الإصابة بالأورام السرطانية.

• إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA): أعلنت أن معظم الدراسات حتى الآن لم تظهر علاقة سببية بين استخدام الهواتف المحمولة والإصابة بالسرطان أو أي مشاكل صحية خطيرة.

• مؤسسة السرطان الأمريكية (ACS): أوضحت أن موجات الهاتف المحمول لا تمتلك طاقة كافية لإحداث تغيرات في الحمض النووي، وبالتالي لا تؤدي إلى حدوث السرطان.

• المعهد الوطني للسرطان (NCI): نشر مراجعة شاملة للدراسات، وأكد أنه لا توجد أدلة مقنعة على ارتباط استخدام الهاتف المحمول بزيادة خطر الإصابة بأورام الدماغ أو أورام أخرى.

تحليل علمي لطبيعة الدراسات السابقة ومحدداتها

رغم وفرة الدراسات، فإن بعض المخاوف العامة استندت إلى نتائج متضاربة أو دراسات منخفضة الجودة المنهجية. وتعاني العديد من الدراسات الوبائية من مشاكل تتعلق بالتحيز في التذكر (recall bias)، وصعوبة التحقق من البيانات الدقيقة حول مدة وتواتر استخدام الهاتف، وتغير تقنيات الاتصال بمرور الوقت، مما يجعل من الصعب إجراء تقييم شامل للخطر.

كما أن التغير المستمر في تكنولوجيا الهواتف المحمولة وشبكات الاتصال (من الجيل الثاني إلى الخامس) يقلل من القدرة على مقارنة النتائج عبر فترات زمنية مختلفة. فمثلًا، الهواتف الحديثة تصدر مستويات إشعاع أقل بكثير من الهواتف القديمة، كما أن استخدام السماعات والرسائل النصية والتطبيقات قلل من تعرض الرأس المباشر للإشعاع.

إحصائيات الإصابة بالسرطان واستخدام الهواتف المحمولة

من اللافت أن معدلات الإصابة بأنواع معينة من السرطان، مثل أورام الدماغ، لم تشهد ارتفاعًا يتناسب مع الزيادة الكبيرة في استخدام الهواتف المحمولة عالميًا. فبحسب مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، فإن معدلات الإصابة بالأورام الدماغية ظلت مستقرة إلى حد كبير خلال العقدين الأخيرين، رغم ازدياد استخدام الهواتف المحمولة بشكل كبير.

كما تشير دراسات سكانية من دول مثل أستراليا والدنمارك إلى عدم حدوث تغيرات كبيرة في معدلات الإصابة بالأورام التي كان يُشتبه أنها مرتبطة باستخدام الهاتف، ما يُضعف الفرضية القائلة بوجود علاقة سببية بين الاثنين.

الجدول التالي يلخص أبرز الدراسات والتقييمات من الهيئات المختصة

الخلاصة العلمية: التمييز بين الشكوك والتأكيدات

عند التعامل مع القضايا الصحية العامة، لا بد من التمييز بين المخاوف النظرية والنتائج المثبتة علميًا. وفي حالة الهواتف المحمولة والسرطان، فإن حجم الأدلة المتوفرة والمراجعات المنهجية المحكمة تؤكد أن العلاقة بينهما غير مثبتة علميًا، بل وتُعتبر غير مرجحة بيولوجيًا.

قد يكون من الطبيعي أن تُثار هذه المخاوف في ظل انتشار الأجهزة وتعدد استخدامها، لكن الاستجابة الفعالة تتمثل في تعزيز الثقافة العلمية، والاعتماد على مصادر موثوقة، وعدم الانجراف وراء الشائعات أو الادعاءات غير المدعومة بالبراهين.

توصيات استخدام الهاتف المحمول ضمن الإطار الآمن

على الرغم من أن الأدلة لا تشير إلى خطورة استخدام الهواتف المحمولة من الناحية السرطانية، فإن اعتماد ممارسات صحية في استخدامها يظل أمرًا محمودًا، خصوصًا للأطفال أو الأشخاص القلقين. وتشمل هذه الممارسات:

• استخدام السماعات الخارجية أو تقنية البلوتوث لتقليل التعرض المباشر للرأس.

• تقليل المكالمات الطويلة أو تقسيمها إلى فترات قصيرة.

• تفضيل الرسائل النصية أو تطبيقات الاتصال التي لا تتطلب اقتراب الهاتف من الرأس.

• عدم إبقاء الهاتف المحمول ملاصقًا للجسم لفترات طويلة، كحمله في الجيب طوال الوقت.

المصادر والمراجع

1. National Cancer Institute (NCI) – “Cell Phones and Cancer Risk” (2020).

2. World Health Organization (WHO) – “Electromagnetic fields and public health: mobile phones” (Fact sheet, 2014).