النمو مقابل الأرباح في الشركات الناشئة

هل يجب أن تركز الشركات الناشئة على زيادة النمو أم على تحقيق الأرباح؟

في عالم ريادة الأعمال والشركات الناشئة، يبرز تساؤل مركزي يشغل بال الكثير من المؤسسين والمستثمرين: هل يجب أن يكون التركيز الأساسي على زيادة نمو الشركة أم على تحقيق الأرباح؟ هذا السؤال ليس فقط من قبيل الاختيار البسيط، بل يمثل تحديًا استراتيجيًا جوهريًا يؤثر على مسار الشركة ومستقبلها. إن التوازن بين النمو وتحقيق الأرباح يعتمد على طبيعة السوق، ونموذج العمل، ومرحلة الشركة، وكذلك على الأهداف طويلة الأمد التي يسعى إليها المؤسسون والمستثمرون.

تعريف النمو وتحقيق الأرباح في الشركات الناشئة

النمو يشير إلى زيادة حجم الشركة على مستويات متعددة: عدد العملاء، الإيرادات، الحصة السوقية، حجم العمليات، وحتى التوسع الجغرافي. النمو في الشركات الناشئة غالبًا ما يكون مرتبطًا بسرعة الزيادة في قاعدة المستخدمين أو المبيعات، حتى ولو كان ذلك على حساب الأرباح مؤقتًا.

تحقيق الأرباح يعني أن الشركة تستطيع توليد إيرادات تغطي جميع تكاليف التشغيل وتحقق فائضًا ماليًا يمكن استخدامه لإعادة الاستثمار، توسيع النشاط، أو توزيع الأرباح على المساهمين. تحقيق الأرباح يعكس استدامة مالية حقيقية ويقلل من اعتماد الشركة على التمويل الخارجي.

دوافع التركيز على النمو في الشركات الناشئة

1. توسيع الحصة السوقية والسيطرة على المنافسين
   
   في الأسواق التنافسية، تسعى الشركات الناشئة إلى زيادة حصتها السوقية بأقصى سرعة ممكنة لتثبيت مكانتها، خصوصًا إذا كانت تعمل في قطاع ناشئ أو سريع التغير. النمو السريع يمنح الشركة ميزة تنافسية، حيث يصعب على المنافسين اللحاق بها.

2. جذب المستثمرين وزيادة التمويل
   
   المستثمرون في الشركات الناشئة غالبًا ما يهتمون أكثر بمعدل نمو الشركة مقارنة بالأرباح الأولية، خصوصًا في المراحل المبكرة. النمو القوي يشير إلى إمكانية مستقبلية عالية العائد، مما يساعد الشركة في جذب المزيد من رؤوس الأموال.

3. تحقيق اقتصاديات الحجم
   
   عندما تنمو الشركة وتزيد عملياتها، تصبح أكثر كفاءة في التكاليف بسبب استفادتها من اقتصاديات الحجم. التوسع يمكن أن يقلل من تكلفة الوحدة وبالتالي يزيد من هوامش الربح على المدى الطويل.

4. بناء العلامة التجارية والاعتراف بالسوق
   
   النمو السريع يعزز مكانة الشركة في أذهان المستهلكين، مما يخلق قاعدة عملاء وفية ويزيد من تأثير العلامة التجارية، وهو عامل مهم في ضمان النجاح المستدام.

دوافع التركيز على تحقيق الأرباح في الشركات الناشئة

1. الاستدامة المالية وتقليل الاعتماد على التمويل الخارجي
   
   تحقيق الأرباح يضمن للشركة استقلالية مالية ويجعلها أقل اعتمادًا على جولات التمويل الخارجي التي قد تكون مكلفة أو تؤدي إلى فقدان السيطرة.

2. تحقيق عائد للمستثمرين والمؤسسين
   
   في بعض الحالات، يكون هدف المستثمرين هو تحقيق أرباح مستدامة منذ البداية. هذا ينطبق على الشركات التي تعمل في قطاعات ناضجة حيث النمو محدود نسبيًا.

3. المرونة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية
   
   الشركات التي تحقق أرباحًا مستقرة تمتلك مرونة أكبر في اختيار مسارات نموها وتطوير منتجاتها أو خدماتها بدون ضغط الحاجة إلى زيادة رأس المال.

4. تجنب الفشل المالي
   
   التركيز على الأرباح يقلل من مخاطر الإفلاس المالي، حيث أن الشركة لا تعتمد على الاستدانة أو التمويل الخارجي المستمر لتغطية النفقات التشغيلية.

مراحل الشركات الناشئة وعلاقتها بالنمو والأرباح

في المراحل الأولى، مثل مرحلة الفكرة أو الانطلاق، يكون النمو أولوية قصوى. السبب هو الحاجة إلى إثبات صحة نموذج العمل وجذب أكبر عدد ممكن من العملاء أو المستخدمين. في هذه المرحلة، من المتوقع غالبًا أن تكون الشركة غير مربحة أو تحقق أرباحًا محدودة، إذ تُعاد معظم الإيرادات للاستثمار في التسويق، تطوير المنتج، والبنية التحتية.

مع انتقال الشركة إلى مرحلة التوسع، يصبح من الضروري موازنة النمو مع تحقيق الأرباح. فالنمو المستمر دون ربحية قد يؤدي إلى ضغوط مالية متزايدة، في حين أن التركيز على الأرباح فقط قد يبطئ من سرعة التوسع ويضعف القدرة التنافسية.

في مرحلة النضج، غالبًا ما يكون تحقيق الأرباح هو الهدف الأساسي. الشركات التي تصل إلى هذه المرحلة تكون قد بنيت قاعدة عملاء قوية، وحصة سوقية مستقرة، ومن الضروري أن تحقق عوائد مالية للحفاظ على الاستدامة.

مخاطر التركيز على النمو فقط

• استنزاف الموارد المالية
  
  النمو السريع يحتاج إلى استثمارات ضخمة في التسويق، التوظيف، والتطوير، وقد يؤدي إلى استنزاف موارد الشركة المالية بسرعة، ما يهدد بقاءها إذا لم يكن هناك تمويل مستمر.

• إهمال الجودة والعمليات
  
  التركيز على التوسع السريع قد يؤثر سلبًا على جودة المنتج أو الخدمة، مما يؤدي إلى تراجع رضا العملاء وسمعة الشركة.

• فقدان التركيز الاستراتيجي
  
  زيادة النمو السريعة دون تخطيط قد تسبب تشتيت الموارد وتضارب الأولويات، ما قد يعيق اتخاذ قرارات مدروسة ومستنيرة.

مخاطر التركيز على الأرباح فقط

• تقييد فرص التوسع والتطور
  
  التركيز المفرط على الأرباح في المراحل الأولى قد يمنع الشركة من استغلال فرص النمو السريع في السوق، مما يجعلها عرضة للتراجع أمام المنافسين.

• تجاهل بناء قاعدة عملاء قوية
  
  قد يؤدي التركيز على الأرباح إلى تخفيض الاستثمار في التسويق أو تطوير المنتج، مما يؤثر على جذب العملاء الجدد.

• التأخر في اكتساب ميزات تنافسية
  
  في قطاعات تشهد تغييرات سريعة، الشركات التي تركز فقط على الأرباح قد تفشل في مواكبة التطورات، ما يفقدها مكانتها في السوق.

مزيج متوازن بين النمو والأرباح: الاستراتيجية الأمثل

العديد من الشركات الناشئة الناجحة تعتمد على نموذج توازن بين النمو وتحقيق الأرباح، حيث يُسمح في المراحل الأولى للتركيز على النمو سريعًا مع قبول الخسائر المؤقتة. وبعد استقرار قاعدة العملاء، تبدأ في تحسين هوامش الربح تدريجيًا للوصول إلى الاستدامة المالية.

عوامل تؤثر على القرار بين النمو وتحقيق الأرباح

• طبيعة الصناعة والسوق
  
  الأسواق الناشئة أو التي تعتمد على التكنولوجيا عادة ما تتطلب نموًا سريعًا حتى تحتل مكانة قوية، بينما القطاعات التقليدية قد تعطي أولوية أكبر لتحقيق الأرباح.

• الموارد المالية المتاحة
  
  الشركات التي تملك تمويلًا قويًا تستطيع تحمل خسائر مؤقتة والتركيز على النمو، أما التي تملك موارد محدودة فتحتاج إلى تحقيق أرباح للحفاظ على عملياتها.

• رؤية المؤسسين والمستثمرين
  
  الأهداف طويلة الأجل للمؤسسين والمستثمرين تلعب دورًا في تحديد الأولويات. بعض المستثمرين يفضلون النمو السريع حتى على حساب الأرباح، بينما يفضل آخرون الاستقرار المالي المبكر.

• التكنولوجيا ونموذج العمل
  
  نماذج الأعمال التي تعتمد على الاشتراكات أو الإعلانات تحتاج إلى قاعدة مستخدمين ضخمة قبل تحقيق الأرباح، في حين أن الشركات التي تبيع منتجات مادية قد تحقق أرباحًا أسرع.

جدول مقارنة بين النمو وتحقيق الأرباح في الشركات الناشئة

الخلاصة

القرار بين التركيز على زيادة نمو الشركة الناشئة أو تحقيق الأرباح ليس خيارًا ثنائيًا بسيطًا، بل هو توازن دقيق يتطلب تحليلًا عميقًا لطبيعة السوق، المرحلة التي تمر بها الشركة، والأهداف الاستراتيجية لكل من المؤسسين والمستثمرين. في المراحل الأولى من حياة الشركة، يكون من المنطقي تركيز الجهود على النمو السريع لإثبات جدوى نموذج العمل وبناء قاعدة عملاء قوية، حتى لو أدى ذلك إلى تحمل خسائر مؤقتة. مع تقدم الشركة وتوسعها، يصبح من الضروري تحويل التركيز نحو تحقيق الأرباح لضمان الاستدامة المالية وتقليل الاعتماد على التمويل الخارجي.

التوجه الأمثل هو مزيج متوازن يتيح للشركة النمو بسرعة كافية لتثبيت مكانتها، مع العمل في الوقت ذاته على بناء أسس مالية متينة تحقق أرباحًا مستدامة. هذا التوازن هو الذي يمنح الشركات الناشئة القدرة على مواجهة تحديات السوق، الصمود في وجه المنافسة، والتطور المستمر نحو مستقبل ناجح ومستدام.

المصادر

• “The Lean Startup”, Eric Ries, Crown Business, 2011.

• “Scaling Up: How a Few Companies Make It…and Why the Rest Don’t”, Verne Harnish, Gazelles, Inc., 2014.