شرح حديث “إن النظرة سهم من سهام إبليس”
في الحديث النبوي الشريف، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إن النظرة سهم من سهام إبليس، من تركها خوفًا من الله، أعطاه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه”. يعد هذا الحديث من الأحاديث التي تحمل في طياتها معاني عظيمة من الإرشاد الرباني، وتوجيهات نبويّة توضح أهمية الحذر من النظر إلى ما حرم الله، لما في ذلك من آثار سلبية على الفرد والمجتمع. سنتناول في هذا المقال شرح هذا الحديث في سياق معانيه اللغوية والشرعية، بالإضافة إلى تفسير العلماء، ودلالاته النفسية والاجتماعية.
أولًا: شرح معاني الألفاظ في الحديث
-
النظرة: كلمة “النظرة” في الحديث تشير إلى النظر إلى الأشياء التي تكون محرمة شرعًا، سواء كان النظر إلى امرأة أجنبية، أو إلى ما يخدش الحياء أو يمس طهارة القلب. هذه النظرة ليست بالضرورة أن تكون نظرة طويلة أو متواصلة، بل هي مجرد التحديق أو الالتفات إلى ما لا يجوز النظر إليه.
-
سهم من سهام إبليس: في هذا التشبيه، يُقارن النبي صلى الله عليه وسلم النظرة المحرمة بسهم من سهام إبليس، الذي يُرمى به قلب الإنسان. والمعنى هنا أن كل نظرة محرمة هي بمثابة سهم يقذف في القلب ويشعل فيه نار الشهوة والفتنة، مما يؤدي إلى تأجيج الغرائز والابتعاد عن الطهارة. والشهوة في هذا السياق تعني كل ما يثير الرغبات المحرمة.
-
تركها خوفًا من الله: يُحمد المسلم هنا لتركه النظرة المحرمة متجنبًا الوقوع فيها، على الرغم من أن قلبه قد يميل إليها، إلا أنه يعرضها عن خوف من الله عز وجل ورغبة في طاعته.
-
أعطاه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه: هذه جزاء من يترك النظر المحرم، حيث يُعطى من الله عز وجل هبة الإيمان الكامل، الذي يشمل الطمأنينة النفسية والسلام الداخلي، ويجد صاحبها سعادة وراحة قلبية لا يعادلها شيء، مما يُعتبر بمثابة مكافأة إلهية لهذه الإرادة الطاهرة.
ثانيًا: شرح الحديث في ضوء الشريعة الإسلامية
يُعتبر هذا الحديث من الأحاديث التي تتناول مسألة حفظ العورات والابتعاد عن ما يُثير الشهوات. الإسلام حث على ستر العورات والحفاظ على العفة والطهارة في جميع جوانب الحياة. ولذلك، يُعد النظر إلى ما حرمه الله من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى فساد القلب وتخريب المجتمع.
النظرة في الإسلام ليست مجرد فعل فسيولوجي، بل هي فعل قلبي وعقلي وروحي. حين ينظر الإنسان إلى ما لا يجوز له النظر إليه، لا يتوقف تأثير هذه النظرة عند الحد الظاهر، بل يمتد إلى القلب الذي يلوثه، إلى العقل الذي يشوّشه، وإلى الروح التي تتأثر سلبًا. وبالتالي، فإن النظرة لا تعود مجرد حركة عين بل تصبح مفتاحًا لفتنة أكبر قد تؤدي إلى معاصٍ أخرى.
يُفهم من هذا الحديث أن النظرة المحرمة تُعد من أدوات الشيطان لإشغال المسلم عن طريق الهداية، فهي نوع من الفتن التي تهدف إلى سحب الإنسان إلى محرمات أخرى مثل الزنا أو الانحرافات الجنسية. في هذا السياق، تعتبر النظرة مصدرًا رئيسيًا للفساد النفسي والروحي الذي يخلق فراغًا في حياة المسلم.
ثالثًا: أثر النظرة المحرمة على الفرد والمجتمع
من خلال هذا الحديث النبوي، يمكننا أن نُدرك التأثير السلبي الكبير للنظرة المحرمة على الإنسان. حيث يبدأ تأثير النظرة الخاطئة بتأجيج الرغبات والشهوات التي قد تجرّ صاحبها إلى ارتكاب الذنوب الأخرى. الفتنة تبدأ في القلب، ثم تتحول إلى أفكار، وقد تؤدي إلى أفعال قد تضر الفرد في دينه ودنياه.
على مستوى الفرد، فإن النظرة المحرمة تفتح الباب أمام الانحرافات السلوكية، وقد تكون بداية لضعف الإيمان، حيث يعكّر هذا الفعل صفو القلب ويجعله أكثر تأثرًا بالشهوات. ومن ثم، قد يجد الشخص نفسه عُرضة للوقوع في المحرمات التي قد تتبع تلك النظرة، مثل الانخراط في العلاقات غير الشرعية أو ممارسة الزنا، وهو ما يؤدي إلى فساد أخلاقي وروحي عميق.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن تزايد انتشار مثل هذه النظرات المحرمة يمكن أن يؤدي إلى تفشي الفواحش في المجتمع، وتدمير العلاقات الأسرية، حيث ينتج عن هذه النظرات في بعض الأحيان ممارسات ضارة تضر بالمجتمع ككل. يساهم كل فرد في المجتمع عندما يحفظ بصره في الحفاظ على سلامة المجتمع ككل، بما يعزز العلاقات الطيبة والمبنية على الثقة والعفاف.
رابعًا: كيف نحصن أنفسنا من تأثير النظرة المحرمة؟
إن الحماية من تأثير النظرة المحرمة تتطلب وعيًا عميقًا وحذرًا من المسلم في جميع جوانب حياته اليومية. ومن أبرز الوسائل التي يمكن أن تساهم في الوقاية من فتنة النظرة ما يلي:
-
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: يجب على المسلم أن يلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى ويستعيذ من الشيطان في اللحظات التي قد تهدده فتنة النظر إلى ما لا يجوز. إن الاستعاذة من الشيطان تُعد من أنجع الوسائل التي تعين على تطهير القلب من هذه الفتن.
-
غض البصر: يعد غض البصر أحد أهم التعليمات النبوية التي تساعد على الوقاية من فتنة النظرة. فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الثانية”. هذا التوجيه يبين أن الغض عن النظر المحرم هو فريضة على كل مسلم يريد أن يحفظ إيمانه ويبتعد عن العواقب الوخيمة التي قد تترتب على هذا الفعل.
-
التفرغ للعبادة والطاعات: الإيمان هو من أعظم الوقايات من فتنة النظرة. فكلما زادت تقوى الله في قلب المسلم، زادت قدرته على تجنب المحرمات والابتعاد عن كل ما يثير الشهوات. ومن أجل ذلك، يجب أن يكثر المسلم من الدعاء، والصلاة، وقراءة القرآن ليجد حلاوة الإيمان في قلبه.
-
الابتعاد عن المواقف المثيرة: إن محاولة تجنب الأماكن والمواقف التي يمكن أن تثير في النفس الرغبات المحرمة لهو من الخطوات الوقائية المهمة. يجب على المسلم أن يحرص على تجنب الأماكن التي لا تليق به، مثل الأماكن التي توجد فيها وسائل الإعلام المليئة بالإعلانات المثيرة.
-
الزواج المبكر: من الوسائل العملية التي حثنا عليها الإسلام لحماية الإنسان من الشهوات هو الزواج المبكر. يساهم الزواج في إشباع الحاجات الفطرية بطريقة شرعية، ويمنع الفرد من الوقوع في المحرمات.
خامسًا: جزاء من يترك النظرة المحرمة
في هذا الحديث النبوي، يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن جزاء ترك النظرة المحرمة، ويُبشر من يلتزم بهذا السلوك بالحصول على إيمان يجد حلاوته في قلبه. هذا الإيمان لا يقتصر على مجرد الشعور العام بالتدين، بل يشمل شعورًا عميقًا بالطمأنينة والسكينة التي تغمر قلب المؤمن. فالإيمان لا يتأتى فقط من النوايا الطيبة، بل من الأفعال التي يُؤدى بها المسلم أوامره، ويجتنب بها محارمه.
إن الحلاوة التي يتحدث عنها الحديث هي نعمة روحية يشعر بها المؤمن حين ينعم قلبه بالإيمان النقي الخالي من الفتن. هذه الحلاوة تُمثل سكينة النفس واطمئنان القلب، وهو ما يعجز عنه الكثير من الناس الذين يعيشون في فتن الحياة.
الخاتمة
الحديث “إن النظرة سهم من سهام إبليس” هو تذكير للمسلمين بضرورة الحذر من النظر إلى ما حرم الله، والتأكيد على أن هذه النظرة ليست مجرد فعل عابر، بل هي بوابة يمكن أن تؤدي إلى شرور أعظم. كما أنه يُظهر كيف أن إيمان المسلم وحمايته من هذه الفتن يكون جزاؤه الأسمى في الحصول على قلب طاهر ومؤمن.
من خلال الالتزام بتوجيهات الإسلام في هذا الشأن، يستطيع المسلم أن يحفظ نفسه من شرور النفس والشيطان، وأن يعيش حياة مليئة بالسكينة والطمأنينة التي لا يعكرها أي منغصات الشهوات.
