النجاشي ملك العدل والإسلام

النجاشي: ملك الحبشة الذي منح الأمان للمسلمين

يعدُّ النجاشي (الذي يُعرف أيضًا بأسمه الكامل “أصحمة بن أبجر”) واحدًا من أبرز الشخصيات التي خلدها التاريخ الإسلامي في فترة مبكرة، حيث ارتبط اسمه بعدد من الأحداث الهامة التي كانت محورية في تاريخ الدعوة الإسلامية. وكان له دور محوري في حماية المسلمين الأوائل الذين واجهوا الاضطهاد في مكة على يد قريش، إذ منحهم الأمان في مملكته، لتصبح تلك الواقعة من أبرز تجليات العدل والإنسانية في تاريخ العلاقات بين الأمم.

النجاشي: نشأته وموقعه السياسي

النجاشي كان ملكًا على مملكة الحبشة (أثيوبيا الحالية)، وهي واحدة من أعرق وأقوى الممالك في القرن السابع الميلادي. من المعروف أن الحبشة كانت تعتبر في ذلك الوقت مركزًا ثقافيًا وحضاريًا هامًا في قارة إفريقيا، حيث تميزت بتاريخ طويل من العلاقات التجارية والدينية مع مختلف شعوب العالم القديم، بما في ذلك العرب. عُرف عن الحبشة بأنها كانت دولة ذات استقرار نسبي في ظل حكم النجاشي، الذي تبنى سياسات قائمة على العدالة وحرية الأديان.

وُلِد النجاشي في أسرة ملكية، وورث العرش عن والده الذي كان يحكم الحبشة قبل أن يتولى الحكم. خلال فترة حكمه، استطاع أن يفرض نفسه كحاكم قوي على نطاق واسع من الأراضي، وكان يحظى بتقدير كبير من قبل رعاياه، بما في ذلك من تبنوا الديانة المسيحية في بلاده.

النجاشي والإسلام: مواقف تاريخية لا تُنسى

عندما بدأ الإسلام يظهر في مكة في بدايات القرن السابع الميلادي، واجه المسلمون الأوائل العديد من التحديات التي تمثلت في الاضطهاد والتعذيب من قبل قريش. على الرغم من أن الدعوة الإسلامية كانت قد بدأت في مكة، إلا أن العديد من المسلمين الأوائل تعرضوا للاضطهاد بسبب عقيدتهم الجديدة، وهو ما دفعهم إلى البحث عن مكان آمن للعيش.

في ذلك الوقت، كان النجاشي هو الحاكم الذي قرر منح الأمان للمسلمين الهاربين من قريش. عندما بدأ المسلمون بالهجرة إلى الحبشة، كانت هذه الهجرة هي الأولى من نوعها والتي سعت إلى النجاة من ظلم قريش. وقد ذكر المؤرخون أن الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة في بداية الأمر كانوا نحو 80-100 مسلم، من بينهم الصحابة الكرام مثل عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى الكثير من المسلمين الذين قرروا المغادرة هروبًا من قسوة قريش.

النجاشي ورسالته للمسلمين

لم يكن النجاشي مجرد ملك حكم الحبشة بل كان أيضًا شخصية ذات وعي عميق بالحقوق الإنسانية. وتعد قصة استقباله للمسلمين الهاربين من مكة واحدة من أبرز مواقفه الإنسانية في التاريخ. بعد وصول المسلمين إلى الحبشة، سارع قريش بإرسال وفد مكون من رجالهم الرفيعي المستوى إلى النجاشي لكي يقنعوه بإرجاع المسلمين إلى مكة. جاء الوفد بمهمة واضحة: إقناع النجاشي بتسليم المسلمين الذين هاجروا إليه وإعادتهم إلى قريش.

لكن النجاشي كان حريصًا على أن يظل حكمه عدلاً، فاستمع إليهم وعرض عليهم أن يعرضوا على المسلمين عقيدتهم. فعندما قرأ أحد المسلمين آيات من القرآن الكريم أمامه، تمثل ذلك اختبارًا له لمعرفة مواقف المسلمين ومدى صدقهم في دينهم. وعندما سمع النجاشي آيات من سورة مريم تتحدث عن عيسى عليه السلام، تأثر تأثرًا عميقًا وقال قولته المشهورة: “والله ما جاء به عيسى إلا ما جاء به محمد”. لم يكن ذلك مجرد تقدير للمسلمين في موقفه، بل كان دليلاً على معرفته العميقة بالدين وتقديره للحرية الدينية واحترام عقائد الآخرين.

رفض النجاشي مطالب قريش وأعلن أن المسلمين سيكونون في أمان في مملكته، وأنه لن يسلمهم أبدًا إلى قريش، وهو الموقف الذي لاقى تقديرًا كبيرًا من قبل المسلمين، حيث تأكدوا أن لديهم حاميًا عدلاً في ظل الظروف القاسية التي كانوا يعانون منها.

علاقة النجاشي بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم

فيما يتعلق بعلاقة النجاشي بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كانت علاقة قائمة على الاحترام المتبادل والتقدير. يروي العديد من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائمًا يذكر النجاشي بالخير، ويثني عليه لدوره في حماية المسلمين. وبعد أن توفي النجاشي، تلقى النبي صلى الله عليه وسلم الخبر الحزين، فصلى عليه صلاة الغائب، وهي الصلاة التي لم يُصَلِّها النبي على أحد غيره من غير المسلمين، وهذا يعد من أبرز الأدلة على تقدير النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي.

وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إن أخا لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه”، وذلك عندما علم بوفاة النجاشي. هذه الحادثة تبين حجم الاحترام الذي كان يكنّه النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحاكم العادل.

النجاشي وميراثه التاريخي

إن دور النجاشي في تاريخ الإسلام لا يقتصر فقط على موقفه الشجاع مع المسلمين الأوائل، بل يمتد إلى كونه أحد الحكام الذين تمثل حكمهم العدالة الإنسانية والاحترام المتبادل بين الأديان. لقيت قراراته الحكيمة إشادة من جميع الأطراف، خاصة من المسلمين الذين وجدوا في حبشته ملاذًا آمنًا بعيدًا عن الأذى والاضطهاد.

ومع مرور الوقت، أصبح النجاشي رمزا للعدل والحكمة، وهو ما جعله نموذجًا يحتذى به من قبل الحكام في مختلف العصور. وإذا كانت سياسة النجاشي قد خُلدت في التاريخ الإسلامي، فإن مواقفه من المسلمين ومن غيرهم كانت جزءًا من المعايير التي بنى عليها تاريخ العلاقات الدولية في العصور الوسطى.

لقد ترك النجاشي بصمة واضحة في تاريخ الأمة الإسلامية، ولا زالت قصته تذكر إلى اليوم كإحدى أروع الأمثلة على العدل والإنسانية. تمثل علاقة النجاشي بالمسلمين المثال الذي يجب أن يحتذي به الحكام في التعامل مع القضايا الإنسانية والحقوقية، وهي مسألة لا تزال حاضرة بقوة في عالمنا اليوم.

الخاتمة

لقد كانت مملكة الحبشة في عهد النجاشي منارة للعدالة والرحمة، وبرزت تلك الصفات في أسمى تجلياتها حين قرر النجاشي أن يمنح الحماية للمسلمين الهاربين من قريش، الأمر الذي كانت له تبعات هامة على مسار الدعوة الإسلامية. إن المواقف التاريخية للنجاشي تؤكد أن الحكام، حينما يحكمون بالعدل ويسعى إلى الحق والحرية، فإنهم يصنعون تاريخًا يتجاوز حدود الزمان والمكان.