مقدمة
عندما نتناول مفهوم “المقدرة السلبية” (Negative Capability) في الأدب والفلسفة، قد يتبادر إلى أذهاننا العديد من الرموز والأفكار التي تثير التساؤلات حول طبيعة التفكير الإبداعي. من بين هؤلاء المفكرين الذين قدموا هذا المصطلح بشكل عميق، يبرز الشاعر الإنجليزي جون كيتس (John Keats) الذي يعتبر من أبرز شعراء الرومانسية. هذا المصطلح، الذي نادرًا ما يتم التطرق إليه في الحوارات اليومية، يعكس جوهر الفلسفة الرومانسية وكشوفاتها حول النفس البشرية، الإبداع، والتجربة الفنية. قد تكون “المقدرة السلبية” أحد المفاهيم التي لم تحظَ بما يكفي من الاهتمام في عصرنا الحالي، لكن في الواقع، تزداد أهميتها بشكل خاص في ظل التحديات المعرفية والثقافية التي نعيشها اليوم.
تعريف “المقدرة السلبية”
إن مفهوم “المقدرة السلبية” هو أحد المصطلحات التي صاغها جون كيتس في رسائله الشعرية. ومن خلاله، يشير كيتس إلى قدرة الفرد على أن يعيش مع التوترات المتناقضة والمتضاربة دون الحاجة إلى حل فوري أو توضيح. هي قدرة الإنسان على التفاعل مع الأحاسيس والأفكار المعقدة التي لا يمكن تفسيرها أو تحديدها بشكل قاطع، بل ببساطة تقبلها كما هي، دون أن نبحث عن معانٍ أو إجابات قاطعة. في هذا السياق، “المقدرة السلبية” تتعلق بالقدرة على مواجهة الغموض والتعقيد العقلي والوجداني بدون الوقوع في فخ الحلول السطحية أو الإجابات المريحة.
كان كيتس يرى أن هذه المقدرة هي خاصية أساسية للفنان أو الشاعر، إذ يمكن من خلالها للفنان أن يخلق ويعبّر عن أفكار ومشاعر غير محدودة، وأن يظل مرنًا في تعبيره عن تعقيدات الحياة. كانت هذه القدرة بالنسبة له أمرًا جوهريًا في عمله الفني، إذ أن الشاعر أو الفنان الذي لا يستطيع قبول هذه التناقضات أو الغموض، يعجز عن إنتاج أعماله الإبداعية العميقة.
الخلفية التاريخية لمفهوم “المقدرة السلبية”
في رسالته الشهيرة إلى شقيقه جورج، كتب كيتس عن “المقدرة السلبية” قائلاً: “إنه يمكن للإنسان أن يكون في حالة من الاستعداد الذهني الذي يستطيع فيه أن يعيش مع الغموض دون أن يبحث عن الحلول”. هذا التصور كان موجهًا جزئيًا إلى مواجهة عدم اليقين الذي يعيشه البشر في عالم يكتنفه الغموض والعواطف المتقلبة.
في زمن كيتس، الذي كان يواكب نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، كان العالم يمر بمرحلة من التحولات العميقة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. كانت الثورة الصناعية في أوجها، والأنظمة السياسية تتغير، مما دفع العديد من المفكرين والفنانين إلى التفكير في ماهية التقدم والحدود التي يمكن أن يصل إليها الإنسان. في وسط هذه التغييرات العميقة، كان كيتس وغيره من شعراء الرومانسية يسعون للبحث عن طرق جديدة للتعبير عن النفس الإنسانية، بعيدًا عن التفسير العقلاني البسيط للأشياء.
الملامح الأساسية للمقدرة السلبية عند كيتس
تتعدد جوانب “المقدرة السلبية” عند كيتس، ومن أبرز ملامحها:
-
الاستعداد لقبول التناقضات: إن الشخص الذي يمتلك المقدرة السلبية لا يسعى إلى التخلص من التناقضات أو التوترات الداخلية، بل يتقبلها. يشير كيتس إلى ضرورة تقبل التوتر بين الأفكار المختلفة والآراء المتباينة، وهي سمة أساسية من سمات العقل المبدع.
-
الانفتاح على الغموض: بدلاً من البحث عن حلول فورية أو وضوح فوري، يدعو كيتس إلى الانفتاح على الغموض والتمتع به. هذه القدرة على التحمل والتعايش مع الغموض هي ما يعزز من إبداع الفنان أو المفكر.
-
التركيز على الحدس والمشاعر: على عكس العقلانية المفرطة التي سادت الفلسفة والعلوم في عصره، كان كيتس يرى أن الانفتاح على الحدس والمشاعر يمكن أن يؤدي إلى فهم أعمق وأوسع للأشياء. الشعر، كما كان يراه، هو أداة لفهم العالم ليس من خلال المنطق فقط، بل أيضًا من خلال تجاربنا الوجدانية.
-
التجربة الحية للمشاعر: أحد الجوانب الأساسية في “المقدرة السلبية” هو أن الفنان لا يسعى لإعطاء معاني ثابتة لما يمر به. بل يفضل العيش في التجربة الحية للمشاعر والتناقضات، مما يسمح له بالوصول إلى أبعاد جديدة من الإبداع.
أهمية المقدرة السلبية في وقتنا الحالي
على الرغم من أن مفهوم “المقدرة السلبية” نشأ في القرن التاسع عشر، إلا أنه يحمل في طياته الكثير من الدروس القيمة التي يمكننا تطبيقها في وقتنا الحالي، حيث نواجه عالمًا سريع التغيير ومعقدًا. وفيما يلي بعض الأسباب التي تجعل هذا المفهوم ذا أهمية خاصة في عالمنا المعاصر:
-
التعامل مع الضغوط النفسية: في عصرنا الحالي، يعاني العديد من الأشخاص من ضغوط نفسية نتيجة للمسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن التحديات السياسية والتكنولوجية. إن القدرة على تقبل الغموض والتناقضات التي تشكل جزءًا من حياتنا اليومية قد تساعدنا في تقليل التوتر النفسي والوجداني. إذ أن السعي الدائم للحصول على إجابات واضحة قد يخلق مزيدًا من القلق، بينما تقبل التناقضات يسمح لنا بالعيش بشكل أكثر توازنًا.
-
الإبداع في عالم مضطرب: في مجالات الفن والأدب والتكنولوجيا، يواجه العديد من المبدعين صعوبة في التكيف مع المتغيرات السريعة. إن تقبل الغموض والتناقض قد يكون هو المفتاح لاستمرار الإبداع. على سبيل المثال، في صناعة التكنولوجيا، يتطلب الابتكار الدائم القدرة على العيش مع عدم اليقين والتجريب المستمر، وهو ما يتيح للمبدعين استكشاف حلول جديدة ومبتكرة.
-
التكيف مع التغيرات الثقافية والاجتماعية: في عصر العولمة، نجد أنفسنا أمام تزايد مستمر للتنوع الثقافي والاجتماعي. في مثل هذا السياق، يكون من الصعب تحديد معايير ثابتة أو حقيقية. بدلاً من ذلك، يشجعنا مفهوم “المقدرة السلبية” على قبول التعددية الثقافية والاجتماعية والتفاعل معها بشكل أكثر فاعلية.
-
التفكير النقدي والتساؤل الفلسفي: يدعو كيتس في “المقدرة السلبية” إلى التفكير النقدي المتسائل بدلاً من التسرع في الوصول إلى نتائج قاطعة. في عصر يتسم بكثرة المعلومات وسهولة الوصول إلى المعرفة، يصبح من السهل أن نكتفي بالأجوبة السطحية. لكن التفكير النقدي يستلزم منا قبول الغموض والشكوك، مما يفتح أمامنا أبوابًا جديدة للبحث والفهم.
-
التأمل في معنى الحياة: في وقت تزداد فيه الانشغالات اليومية، يواجه كثير من الناس أزمة وجودية تتعلق بمعنى الحياة وأهدافها. إن تقبل الغموض وعدم اليقين حول هذا المعنى، كما يشير كيتس، قد يساعدنا في العيش بسلام مع الذات، دون أن نكون مجبرين على تقديم إجابات قاطعة أو محددة.
خاتمة
إن “المقدرة السلبية” ليست مجرد مفهوم فلسفي يخص الشعراء والفنانين، بل هي فكرة ذات بعد أوسع تؤثر في كيفية تعاملنا مع حياتنا اليومية في عالم معقد ومليء بالتحديات. في الوقت الذي نتطلع فيه إلى حل جميع الأسئلة وإغلاق كافة الأبواب، قد يكون من الأهمية بمكان أن نتعلم كيف نعيش مع التناقضات والغموض، وأن نقبل بأن بعض الأسئلة لا تجد لها إجابة فورية أو ثابتة. في هذا السياق، تبقى فكرة “المقدرة السلبية” التي طرحها جون كيتس، تحمل معها رسالة عميقة حول الإبداع، الفهم الذاتي، والتفاعل مع العالم من حولنا.
