المرأة والعمل: بين التمكين والتحديات في العصر الحديث

المقدمة

في قلب التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها العالم خلال القرون الماضية، برزت مشاركة المرأة في سوق العمل كأحد المحاور الأساسية للتغيير المجتمعي. لقد أدت التحولات الفكرية والتقنية والسياسية إلى تغيير جذري في الأدوار التقليدية للمرأة، فبعد أن كانت مقتصرة في غالب الأحيان على الأعمال المنزلية والرعاية الأسرية، أصبحت اليوم تلعب أدوارًا محورية في قطاعات متعددة من الاقتصاد والتعليم والعلوم والسياسة والفن، مما شكّل منعطفًا تاريخيًا في مسيرة الإنسانية نحو مزيد من العدالة والمساواة.

التطور التاريخي لمشاركة المرأة في العمل

عند استعراض التاريخ، نجد أن مشاركة المرأة في العمل لم تكن غائبة كليًا، بل كانت مشروطة بالسياقات الثقافية والاقتصادية. ففي المجتمعات الزراعية القديمة، كانت النساء يعملن في الحقول جنبًا إلى جنب مع الرجال، إلا أن عملهن لم يكن يُعترف به دائمًا كمساهمة اقتصادية مستقلة. وفي العصور الوسطى الأوروبية، لعبت النساء أدوارًا في الحِرَف المنزلية، وكان لهن دور محدود في الأنشطة الاقتصادية داخل إطار العائلة.

في العصر الصناعي، ومع ظهور المصانع وانتقال الإنتاج من المنازل إلى المؤسسات الصناعية، دخلت النساء مضمار العمل بصورة أوسع، خصوصًا في أعمال النسيج والصناعات الخفيفة، لكن ذلك غالبًا ما تم في ظروف قاسية وأجور متدنية. وقد شهد القرن العشرون تطورًا نوعيًا في هذا الجانب، خاصة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث اضطرت الدول إلى إشراك النساء في القطاعات الحيوية لسد الفجوات التي خلّفها غياب الرجال في ميادين الحرب. ومع انطلاق الحركات النسوية وظهور مبادئ حقوق الإنسان، تحوّلت مشاركة المرأة في سوق العمل من ضرورة مؤقتة إلى حق مشروع وأساس في بناء المجتمعات الحديثة.

دوافع وأسباب انخراط المرأة في سوق العمل

تعددت العوامل التي دفعت المرأة للانخراط في سوق العمل، ومن أبرزها:

1. التحول الاقتصادي: أدت الحاجة الاقتصادية المتزايدة في المجتمعات إلى ضرورة مشاركة أفراد الأسرة كافة في تأمين الدخل، ما شمل النساء إلى جانب الرجال.

2. ارتفاع مستوى التعليم: أدّى التوسع في التعليم إلى تأهيل أعداد متزايدة من النساء لدخول مهن كانت حكرًا على الرجال سابقًا، مثل الطب والهندسة والقانون.

3. التحرر من القيود الاجتماعية: بدأت المجتمعات تدريجيًا في تقبل فكرة عمل المرأة خارج البيت، خاصة في الدول التي شهدت تطورًا مدنيًا وثقافيًا متسارعًا.

4. الدعم القانوني والسياسي: وفّرت بعض التشريعات الوطنية والدولية أرضية قانونية لعمل المرأة، مثل قوانين المساواة في الأجر، ومنع التمييز الوظيفي على أساس الجنس، وإجازات الأمومة المدفوعة.

القطاعات التي تميزت فيها المرأة

برزت المرأة في العديد من القطاعات، واستطاعت أن تثبت جدارتها في مجالات عديدة كانت سابقًا من اختصاص الرجال فقط. ومن هذه المجالات:

• القطاع الصحي: أصبحت النساء يشكلن نسبة كبيرة من العاملين في القطاع الطبي، من تمريض وطب عام وتخصصات دقيقة كجراحة القلب والأعصاب.

• التعليم: لعبت المرأة دورًا أساسيًا في قطاع التعليم، سواء في التعليم الأساسي أو العالي، وأثبتت قدرتها على التأثير الإيجابي في تطوير العملية التربوية.

• الإعلام والفن: تمكنت النساء من تحقيق شهرة واسعة في مجالات الصحافة والإخراج والتمثيل، وأصبحن من أبرز المؤثرين في الرأي العام.

• الاقتصاد والأعمال: ظهرت سيدات أعمال ناجحات استطعن تأسيس شركات كبيرة، وخضن تجارب ريادية أثبتت مكانتهن في الاقتصاد المعاصر.

• السياسة والقيادة: في بعض الدول، وصلت النساء إلى مناصب رفيعة مثل رئاسة الحكومة أو البرلمان، وأسهمن في صناعة القرار السياسي والوطني.

التحديات التي تواجه المرأة العاملة

رغم التقدم الملحوظ، ما تزال المرأة العاملة تواجه جملة من التحديات البنيوية والمجتمعية، والتي تعرقل مشاركتها الكاملة في سوق العمل. ويمكن تلخيص هذه التحديات فيما يلي:

1. فجوة الأجور بين الجنسين

تشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى أن النساء، على الصعيد العالمي، يتقاضين أجورًا أقل من الرجال في وظائف مماثلة. وتعود هذه الفجوة إلى عدة عوامل، منها التمييز غير المعلن، والافتراضات المسبقة حول قدرة المرأة على الالتزام الكامل بالعمل بسبب مسؤولياتها الأسرية.

2. التمييز الوظيفي

لا تزال بعض المؤسسات تتردد في تعيين النساء في المناصب القيادية، بسبب تصورات تقليدية تعتبر أن المرأة أقل قدرة على اتخاذ قرارات حاسمة أو إدارة فرق العمل في بيئات عالية الضغط.

3. صعوبة التوفيق بين العمل والأسرة

تعاني العديد من النساء من صعوبة الجمع بين أدوارهن المهنية والأسرية، في ظل غياب سياسات دعم مثل الحضانات في أماكن العمل، أو ساعات العمل المرنة.

4. التحرش في بيئة العمل

تواجه المرأة في بعض الحالات مضايقات أو تحرشًا جنسيًا في مكان العمل، مما ينعكس سلبًا على إنتاجيتها وصحتها النفسية، ويؤدي أحيانًا إلى انسحابها من سوق العمل.

5. النظرة الاجتماعية السلبية

في بعض المجتمعات، ما تزال النظرة التقليدية للمرأة تحصرها في أدوار معينة، وتُبدي تحفظًا تجاه انخراطها في مهن معينة أو السفر من أجل العمل أو تولي المناصب العليا.

الأثر الاقتصادي لمشاركة المرأة في سوق العمل

تُعد مشاركة المرأة في القوى العاملة من أهم المؤشرات على تطور أي اقتصاد. وتشير الدراسات إلى أن ارتفاع نسبة النساء العاملات يؤدي إلى:

• زيادة الناتج المحلي الإجمالي: إذ تساهم المرأة في دفع عجلة الإنتاج عبر الانخراط في الصناعات والخدمات المختلفة.

• تحسين المستوى المعيشي للأسر: فبدخل إضافي تستطيع الأسرة تحسين جودة التعليم والصحة لأفرادها.

• تحقيق التوازن المالي في المجتمع: عبر تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد الكامل على الرجل.

• تعزيز روح الابتكار والريادة: النساء غالبًا ما يجلبن رؤى جديدة إلى بيئات العمل، ويسهمن في خلق نماذج عمل مرنة ومبتكرة.

الجهود الدولية والوطنية لتعزيز عمل المرأة

قامت منظمات دولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولية بإطلاق مبادرات واتفاقيات لتشجيع تمكين المرأة اقتصاديًا، مثل:

• اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW): والتي تُلزم الدول الأعضاء بإزالة الحواجز التي تعوق المرأة عن التمتع بحقوقها الاقتصادية.

• أهداف التنمية المستدامة (2030): والتي تنص صراحة في الهدف الخامس على تحقيق المساواة بين الجنسين، وتمكين جميع النساء والفتيات.

على المستوى الوطني، تبنت بعض الدول استراتيجيات خاصة لدعم مشاركة المرأة، من بينها:

• تخصيص حوافز ضريبية للشركات التي توظف النساء.

• تقديم برامج تدريبية وتعليمية تستهدف الفتيات في المناطق الريفية.

• سن قوانين ضد التحرش والعنف في أماكن العمل.

الأبعاد النفسية والاجتماعية لعمل المرأة

يُعد العمل مصدرًا مهمًا للهوية الشخصية والانتماء الاجتماعي للمرأة، إذ يعزز من شعورها بالاستقلالية والإنجاز والاعتراف المجتمعي. كما يسهم في تقوية ثقتها بنفسها، ويتيح لها شبكة اجتماعية داعمة خارج دائرة الأسرة.

غير أن الضغط المستمر لمحاولة التوفيق بين العمل والحياة الشخصية قد يؤدي إلى إرهاق نفسي أو احتراق مهني، خاصة إذا لم تحظ المرأة بالدعم الأسري والمجتمعي الكافي. لذا، من الضروري تطوير بيئة عمل داعمة توفر للمرأة وسائل الحماية والتوازن بين مسؤولياتها المتعددة.

نحو مستقبل أكثر عدلاً: الرؤية والتوصيات

من أجل تحقيق العدالة الشاملة وتعزيز دور المرأة في العمل، تبرز الحاجة إلى تبني سياسات شاملة وتشاركية تشمل ما يلي:

• تبني قوانين صارمة للمساواة في الأجور.

• تعزيز برامج تمكين المرأة في المجالات العلمية والتقنية، حيث ما تزال نسبة النساء منخفضة في هذه التخصصات الحيوية.

• تشجيع ريادة الأعمال النسائية، من خلال توفير القروض والدعم التقني والتسويقي.

• إنشاء مراكز دعم وإرشاد للمرأة العاملة، تقدم خدمات قانونية ونفسية وتدريبية.

• دمج مفاهيم المساواة في المناهج التعليمية، لتنشئة أجيال تؤمن بالعدالة والمشاركة المتكافئة بين الجنسين.

جدول: مقارنة مشاركة المرأة في القوى العاملة حسب المناطق (بيانات تقديرية)

المصدر: منظمة العمل الدولية (ILO)، تقرير 2024

الخاتمة

إن تمكين المرأة من العمل ليس خيارًا بل ضرورة حضارية واقتصادية. فالمجتمعات التي لا تتيح للمرأة فرصًا عادلة للمشاركة في التنمية، تحرم نفسها من نصف طاقتها الإنتاجية والابتكارية. لذا، فإن بناء منظومات اقتصادية مرنة وشاملة يستدعي احترام الحقوق الوظيفية للمرأة، وتوفير البيئة القانونية والاجتماعية التي تعزز مشاركتها وتُثمّن مساهمتها الفريدة في صنع مستقبل أكثر توازنًا وعدالة.