المدرسة الواقعية: تعريفها وأسسها وتطوراتها
المدرسة الواقعية هي إحدى المدارس الأدبية والفنية التي ظهرت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدًا في فرنسا، كرد فعل على الحركة الرومانسية التي سبقتها. ومن خلال هذه المدرسة، كان الهدف هو تصوير الواقع كما هو دون تزيين أو تهويل. في الأدب والفن، كانت الواقعية تسعى إلى إبراز الحياة اليومية للأشخاص العاديين، دون التركيز على البطولات أو الأحداث الخارقة التي كانت سائدة في الأدب الرومانسي. يعكس هذا الاتجاه الفلسفي اعترافًا حقيقيًا بالواقع المادي والاجتماعي، ويحث على تقديم صورة واقعية للعالم بعيدًا عن المثاليات والخيال.
مفهوم المدرسة الواقعية
الواقعية، في جوهرها، هي التوجه نحو تصوير الحياة الحقيقية كما هي، بغض النظر عن كونها مبهجة أو محزنة. كانت الواقعية رد فعل على الاتجاهات المثالية التي سادت في الأدب والفن خلال العصور السابقة، مثل الرومانسية والكلاسيكية. في الأدب، يركز الكُتاب الواقعيون على تقديم شخصيات تنتمي إلى الطبقات الاجتماعية المتنوعة، من الفقراء إلى الأثرياء، ويصورون حياتهم اليومية وحبهم وصراعاتهم بأقصى قدر من الدقة والواقعية.
في الفن، تمثل الواقعية محاولة للابتعاد عن الأساليب التقليدية المبالغ فيها التي كانت تعتمد على الخيال، وركزت على تصوير الأشياء والأشخاص والمشاهد الحياتية العادية بكل تفاصيلها الدقيقة. لذلك، فإن الواقعية كانت تمثل ثورة فنية وأدبية في تلك الفترة، من خلال محاولتها إزالة الغموض وتقديم صورة أكثر صدقًا عن الإنسان والحياة.
نشأة المدرسة الواقعية
نشأت الواقعية في فرنسا خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، وكان من أبرز المؤثرين في ظهورها الكاتب الفرنسي أونوريه دو بلزاك، الذي قدم سلسلة من الروايات التي تناولت الحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا، موجهًا نقدًا لاذعًا للطبقات العليا والفئات المهمشة في المجتمع. كان بلزاك يشير في رواياته إلى واقع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، مسلطًا الضوء على الروابط المعقدة بين الفقر والثراء، والفساد الاجتماعي والسياسي.
إلى جانب بلزاك، كان غوستاف فلوبير من أبرز الكتاب الذين ساهموا في إرساء دعائم الواقعية، خاصة من خلال روايته الشهيرة مدام بوفاري، التي تناولت حياة امرأة تدعى إيما بوفاري، تعيش في قريتها وتتوق إلى الهروب من واقعها البسيط والممل. تكمن أهمية هذه الرواية في تقديمها صورة دقيقة عن حياة الطبقات الوسطى في فرنسا، مع التركيز على الأزمات الشخصية والداخلية التي يعاني منها الأفراد في ظل المجتمع الذي يحكمهم.
وفي نفس السياق، كانت إميل زولا من أبرز رواد المدرسة الواقعية في الأدب الفرنسي. فقد كانت أعماله تجمع بين الواقعية والميل إلى الإثارة الاجتماعية، وخاصة في سلسلته الشهيرة روغون ماكار التي تقدم صورة موسعة عن الطبقات الفقيرة والمحرومة في المجتمع الفرنسي.
أسس المدرسة الواقعية
تستند المدرسة الواقعية على عدة أسس ومبادئ أدبية وفنية، لعل أبرزها:
-
التركيز على التفاصيل الدقيقة: كان الكتاب الواقعيون يسعون لتقديم صورة حقيقية وصادقة عن الحياة اليومية، من خلال تسليط الضوء على التفاصيل الدقيقة التي قد تبدو عادية أو غير مهمة. هذا يشمل الوصف التفصيلي للأماكن والشخصيات والأحداث، بما يعكس واقع الحياة كما هو، بكل تعقيداته وأوجهه.
-
التمرد على المثالية: عُرفت المدرسة الواقعية بنقدها الحاد للمثالية التي سادت في الأدب الرومانسي والكلاسيكي. فبدلاً من تصوير الأبطال الخارقين أو الشخصيات المثالية، اختار الواقعيون تصوير الأشخاص العاديين، مع ما يواجهونه من مشكلات اجتماعية واقتصادية.
-
التركيز على الطبقات الاجتماعية: كانت الواقعية تهتم بتقديم الحياة كما هي في مختلف طبقات المجتمع، سواء كانت الطبقات العليا أو الدنيا أو الوسطى. وركز الكتاب على تصوير معاناة الطبقات الفقيرة والعمال والمهمشين، كما عرضوا الحياة الحضرية والريفية على حد سواء.
-
الدقة العلمية: كان الواقعيون يسعون إلى تقديم صورة علمية ودقيقة عن الواقع، مستخدمين أسلوبًا موضوعيًا ومباشرًا. في العديد من الأحيان، اعتمد الكتاب الواقعيون على البحث الميداني والملاحظات الدقيقة لتوثيق حياتهم وأحداثهم. كانوا يتجنبون العواطف المبالغ فيها ويعملون على تصوير الواقع بطريقة خالية من الزخارف.
-
نقد المجتمع: كانت المدرسة الواقعية تحاول كشف العيوب والسلبيات في المجتمع، من خلال تسليط الضوء على مشاكل الفقر، والجريمة، والفساد السياسي، والصراعات الطبقية. لم يكن الهدف من هذا النقد إدانة المجتمع فحسب، بل كان يسعى إلى توجيه الأنظار نحو الحاجة إلى الإصلاح الاجتماعي.
الواقعية في الفنون التشكيلية
في مجال الفنون التشكيلية، كانت الواقعية تعني تصوير الحياة الحقيقية بدون تزيين أو تحسين، والتركيز على موضوعات الحياة اليومية مثل الفلاحين، والعمال، والأحداث الطبيعية. وكان من أبرز الفنانين الذين تم تصنيفهم ضمن الواقعيين غوستاف كوربيه، الذي كان من رواد الحركة الواقعية في فرنسا. من أشهر أعماله لوحة دفن في أورنان، التي تناول فيها مشهدًا طبيعيًا يتعلق بالموت والدفن، محاولًا التخلص من الأساليب الرومانسية التقليدية وتقديم الحياة كما هي.
كان كوربيه يُعتبر أحد الفنانين الذين رفضوا الأكاديميات التقليدية التي كانت تسعى إلى إبراز المثالية في الفن. وعوضًا عن ذلك، اختار تقديم مشاهد واقعية بعيدة عن التجميل، حيث كان يبرز الفلاحين والعمال وأشخاص الطبقات الشعبية، محاولًا تصويرهم بشكل يعكس معاناتهم اليومية. هذا التوجه في الفن الواقعي كان بمثابة تغيير جذري في الطريقة التي كان يتم بها تصوير الإنسان في الفنون.
تطورات المدرسة الواقعية
على الرغم من أن المدرسة الواقعية قد بدأت في القرن التاسع عشر، إلا أن تأثيراتها امتدت إلى الحركات الأدبية والفنية في القرن العشرين. فقد كان للواقعية دور كبير في تشكيل الحركات الأدبية التالية مثل الطبيعية، التي مثَّلها إميل زولا، والواقعية الاجتماعية التي انتشرت في الأدب الإنجليزي والأمريكي.
مع بداية القرن العشرين، تغيرت بعض أساليب الكتابة الواقعية، حيث بدأ الكتاب في التركيز على البُعد النفسي والداخلية لشخصياتهم. وقد كان لظهور الواقعية النفسية تأثيرًا كبيرًا على تطور الأدب في هذه الفترة. حيث كانت الواقعية النفسية تسعى إلى تقديم تصوير أدق لما يدور في عقل الشخصيات، وليس فقط الحياة اليومية أو الأحداث الواقعية.
فيما يتعلق بالفنون التشكيلية، تحولت الواقعية إلى أساليب جديدة مثل الواقعية السحرية، و الفن المعاصر، التي سعت إلى دمج عناصر الواقع مع الخيال بأسلوب أكثر تحررًا.
خاتمة
المدرسة الواقعية كانت بمثابة ثورة في طريقة تصوير الأدب والفن للحياة البشرية. وبالرغم من مرور الزمن، إلا أن تأثير هذه المدرسة لا يزال ممتدًا في العديد من الأعمال الأدبية والفنية التي تلتها. وقد ساعدت الواقعية في جعل الأدب والفن أكثر قربًا من الحياة اليومية، إذ كانت تبين الحقائق بجرأة، متجاوزة الصور المثالية والتصورات الرومانسية عن الحياة.
