المدرسة الموقفية في الإدارة

تُعتبر المدرسة الموقفية من المدارس الحديثة في مجال الإدارة، والتي جاءت كرد فعل للمدارس الكلاسيكية والتقليدية التي كانت تعتمد على قواعد ثابتة ونهج موحد في الإدارة. تتميز هذه المدرسة بأنها تعتمد على فكرة أن الإدارة ليست علمًا جامدًا يمكن تعميمه بشكل مطلق على جميع الحالات، بل هي فن وعلم يتطلب مراعاة الظروف والمواقف المختلفة التي تواجه المدير أثناء اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات. بعبارة أخرى، الإدارة الموقفية ترفض النظر إلى الحلول الإدارية من منظور واحد، بل تؤكد على أهمية المرونة والتكيف مع المتغيرات والبيئات المختلفة.

نشأة المدرسة الموقفية في الإدارة

بدأت المدرسة الموقفية في الظهور بشكل بارز خلال منتصف القرن العشرين، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، نتيجة للتطور السريع في بيئات العمل وتنوع المنظمات وتعقيدها. فقد لاحظ الباحثون أن الإدارة وفقًا لقواعد ثابتة أو نظريات محددة مسبقًا لا تحقق دائمًا النجاح في جميع الظروف. كان هناك حاجة إلى نظرية تأخذ في الاعتبار الاختلافات الفردية والبيئية والتكنولوجية والثقافية التي تحيط بالمنظمات. ولذا نشأت المدرسة الموقفية لتقدم إطارًا يسمح للمديرين باتخاذ القرارات بناءً على فهم دقيق للموقف الفعلي الذي يواجهونه.

يعود الفضل في تطوير المدرسة الموقفية إلى عدد من الباحثين والمفكرين في مجال الإدارة، منهم فريد فيديرير ف. فيديرير (Fred Fiedler) الذي قدم نموذج القيادة الموقفية، وكينيث ليفين الذي ناقش أهمية تأثير العوامل البيئية على أساليب الإدارة، وهنري مينتزبرج الذي سلط الضوء على الدور المتغير للمدير في مواقف مختلفة.

مفهوم المدرسة الموقفية

تكمن الفكرة الأساسية للمدرسة الموقفية في أن “أفضل أسلوب إداري” لا يمكن تحديده بشكل مطلق، بل يعتمد على الموقف أو الظروف التي تحيط بالمنظمة والمدير. أي أن الطريقة المثلى لإدارة فريق أو مشروع تختلف باختلاف عوامل عدة مثل طبيعة المهمة، حجم المنظمة، طبيعة العاملين، البيئة المحيطة، التحديات الاقتصادية، والتغيرات التكنولوجية.

وهذا المبدأ يرفض الصرامة التي كانت تتسم بها المدارس التقليدية التي افترضت أن هناك طريقة واحدة صالحة للإدارة في كل الظروف. على العكس، تدعو المدرسة الموقفية إلى التكيف مع الموقف، وتغيير أسلوب الإدارة والتخطيط والتنظيم والرقابة حسب متطلبات كل حالة.

أهم المبادئ التي تقوم عليها المدرسة الموقفية

1. التكيف مع الموقف: يجب على المدير أن يكون قادرًا على تكييف أسلوبه الإداري وفقًا للموقف الذي يواجهه. لا توجد حلول جاهزة أو نماذج إدارية واحدة تصلح لكل حالة.

2. المرونة: الإدارة الفعالة تتطلب مرونة عالية في اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات، بحيث تتغير أساليب القيادة والتوجيه تبعًا للظروف.

3. الاعتماد على التحليل البيئي: تحليل البيئة الداخلية والخارجية للمنظمة ضرورة لاتخاذ القرارات المناسبة، فهذه العوامل تؤثر بشكل مباشر على نجاح الإدارة.

4. العوامل المتعددة: الأداء الإداري يتأثر بمجموعة من العوامل المتداخلة مثل طبيعة المهمة، الموارد المتاحة، مستوى مهارة العاملين، والثقافة التنظيمية.

5. تعدد الأساليب: لا يوجد أسلوب قيادة واحد فعال دائمًا، بل هناك مجموعة من الأساليب التي يجب اختيار الأنسب منها حسب الموقف.

خصائص المدرسة الموقفية في الإدارة

• المرونة والقدرة على التكيف: هي سمة رئيسية تميز المدرسة الموقفية، إذ تعتبر أن نجاح الإدارة مرتبط بمدى قدرة المدير على التكيف مع متغيرات بيئة العمل.

• عدم وجود حلول جاهزة: لا تعتمد المدرسة الموقفية على وصفات جاهزة بل على فهم عميق للموقف واستخدام المعرفة والخبرة لتحديد النهج الأنسب.

• تركيزها على الموقف والبيئة: كل قرار إداري يجب أن يؤخذ بناءً على الظروف المحيطة والعوامل المؤثرة فيه، وليس بناءً على قواعد عامة أو نظريات جامدة.

• الاعتراف بتعقيد الواقع الإداري: تؤكد هذه المدرسة أن الواقع الإداري مليء بالتعقيدات والتداخلات التي لا يمكن تجاهلها.

نماذج الإدارة الموقفية

تطورت المدرسة الموقفية من خلال عدة نماذج نظرية، أشهرها:

نموذج القيادة الموقفية لفريد فيدلر

يعتبر هذا النموذج من أول النماذج العملية التي تبنت فكرة الموقفية. يقوم النموذج على فرضية أن كفاءة القائد تعتمد على مدى تناسب أسلوب قيادته مع طبيعة الموقف. يقسم الأسلوب القيادي إلى:

• أسلوب قيادة يركز على المهمة.

• أسلوب قيادة يركز على العلاقات.

وحدد فيدلر ثلاث متغيرات تحدد مدى سيطرة القائد على الموقف:

1. علاقة القائد بالفريق (مستوى الثقة والتواصل).

2. هيكلية المهمة (وضوح الأهداف والقواعد).

3. سلطة القائد (درجة السلطة الرسمية).

ويتضح من هذا النموذج أن القائد الذي يركز على المهمة يكون أكثر فاعلية في المواقف التي يكون فيها هناك تحكم عالي أو منخفض، أما في المواقف المتوسطة فتكون القيادة التي تركز على العلاقات أكثر فعالية.

نموذج الإدارة الموقفية لكين بلانشارد وبول هيرسي

يركز هذا النموذج على قدرة المدير على تعديل أسلوب قيادته حسب نضج الفريق أو الموظفين من حيث الكفاءة والاستعداد لأداء المهمة. يقترح أربعة أساليب قيادية:

1. القيادة التوجيهية (عالية في التوجيه ومنخفضة في الدعم).

2. القيادة الإرشادية (عالية في التوجيه والدعم).

3. القيادة المشاركة (منخفضة في التوجيه وعالية في الدعم).

4. القيادة التفويضية (منخفضة في التوجيه والدعم).

يجب على المدير اختيار الأسلوب الأنسب بناءً على مستوى نضج الموظفين ومدى استعدادهم لأداء المهام.

نموذج Vroom-Yetton لاتخاذ القرار

يركز هذا النموذج على كيفية اتخاذ القرارات المناسبة اعتمادًا على الموقف، ويعرض خمس أساليب لاتخاذ القرار من المركزية إلى اللامركزية. يعتمد اختيار الأسلوب على عوامل مثل أهمية القرار، مدى توافر المعلومات، وضرورة مشاركة الفريق.

تطبيقات المدرسة الموقفية في الإدارة

تُستخدم المدرسة الموقفية في العديد من المجالات الإدارية وفي مختلف أنواع المنظمات، سواء كانت ربحية أو غير ربحية، صغيرة أو كبيرة. تشمل التطبيقات:

• تطوير أساليب القيادة: تساعد المديرين على فهم متى وكيف يغيرون من أساليب قيادتهم لتناسب المواقف المختلفة.

• إدارة التغيير: تسهم المدرسة الموقفية في إدارة التغيير بشكل فعال من خلال اعتماد استراتيجيات مرنة تتناسب مع طبيعة التغيير والبيئة.

• تحسين اتخاذ القرارات: من خلال التركيز على تحليل الموقف واختيار أساليب إدارة تتلاءم مع الظروف، يتم تحسين جودة القرارات.

• إدارة الصراعات: من خلال فهم طبيعة المواقف والعوامل المحيطة، يمكن اختيار الأسلوب الأمثل لحل النزاعات بشكل بناء.

• التخطيط والتنظيم: توجيه الجهود لوضع خطط مرنة تأخذ في الحسبان المتغيرات المحتملة وتعديل التنظيم الإداري بحسب الحاجة.

مزايا المدرسة الموقفية

1. تعزيز الفعالية الإدارية: لأن القرارات تراعى فيها ظروف البيئة المحيطة، تزداد فرص النجاح وتحقيق الأهداف.

2. المرونة والتكيف: تساعد الإدارة على التعامل مع التغيرات المفاجئة والمتسارعة التي تشهدها البيئات التنظيمية.

3. تطوير مهارات المديرين: من خلال تعلم كيفية تحليل المواقف وتطبيق أنماط إدارة مناسبة، يتحسن أداء المديرين.

4. الواقعية: المدرسة الموقفية أكثر توافقًا مع الواقع المعقد الذي تعيشه المؤسسات مقارنة بالمدارس التقليدية.

5. تحسين العلاقات بين المديرين والموظفين: بفضل اعتماد أساليب قيادية مرنة تتناسب مع طبيعة الأفراد والمواقف.

تحديات تطبيق المدرسة الموقفية

على الرغم من مزاياها، تواجه المدرسة الموقفية بعض التحديات منها:

• صعوبة التحليل الدقيق للمواقف: يتطلب اتخاذ القرار المناسب مهارات عالية وخبرة كبيرة في قراءة الظروف المحيطة.

• تعقيد اتخاذ القرارات: كثرة العوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار قد تعقد عملية اتخاذ القرار.

• عدم وجود معايير واضحة: لأن الإدارة تختلف حسب الموقف، قد يصعب وضع قواعد عامة واضحة للمديرين المبتدئين.

• الحاجة إلى تدريب مكثف: المديرون بحاجة إلى تدريب مكثف لتطوير مهارات التكيف والمرونة في القيادة.

• إمكانية حدوث تضارب في القرارات: قد يؤدي اختلاف تفسيرات المواقف إلى اتخاذ قرارات متباينة تؤثر على استقرار المنظمة.

مقارنة بين المدرسة الموقفية والمدارس التقليدية في الإدارة

العلاقة بين المدرسة الموقفية وأدوات الإدارة الحديثة

مع تطور التكنولوجيا وظهور مفاهيم الإدارة الحديثة مثل الإدارة بالنتائج، وإدارة المعرفة، والتحول الرقمي، أصبحت المدرسة الموقفية أكثر أهمية من ذي قبل. إذ تساعد هذه المدرسة المديرين على التكيف مع بيئات العمل المتغيرة والمعقدة، خاصة في ظل التحديات التي يفرضها عصر الثورة الصناعية الرابعة.

توظيف المدرسة الموقفية يدعم استخدام الأدوات الإدارية الحديثة مثل:

• أنظمة دعم اتخاذ القرار الذكية.

• تحليل البيانات البيئية والتنبؤات.

• القيادة الرقمية وإدارة فرق العمل عن بعد.

• تطبيقات إدارة المشروعات المرنة (Agile).

خاتمة

تمثل المدرسة الموقفية في الإدارة نقلة نوعية في فهم وتطبيق مبادئ الإدارة. فهي تبرز أهمية التكيف مع الظروف المختلفة وتؤكد أن الإدارة ليست قواعد جامدة، بل فن يحتاج إلى خبرة ومهارة في تحليل المواقف واختيار الأساليب الأنسب. بفضل هذه المدرسة، أصبح بالإمكان بناء منظمات أكثر مرونة وقدرة على مواجهة التحديات والتغيرات في بيئات الأعمال المتقلبة، مما يسهم في تعزيز كفاءة الأداء وتحقيق الأهداف الاستراتيجية بفعالية.

المراجع:

• كريستوفر أي. باركر، “مبادئ الإدارة الحديثة”، دار النشر الأكاديمية، 2018.

• فريد فيدلر، “نموذج القيادة الموقفية”، مجلة الإدارة والسلوك التنظيمي، 1967.