المختار الثقفي: سيرة سياسية وعسكرية في قلب الصراعات الإسلامية الأولى

يُعد المختار بن أبي عبيد الثقفي من أبرز الشخصيات التي لعبت دورًا محوريًا في التاريخ الإسلامي خلال القرن الأول الهجري، تحديدًا في مرحلة ما بعد استشهاد الإمام الحسين بن علي في كربلاء سنة 61هـ. ارتبط اسمه بالثأر لدم الحسين، وبرز كقائد ثوري جمع بين الكفاءة العسكرية والفكر السياسي المتقدم مقارنة بسياق عصره. وقد كانت حركته تعبيرًا عن توتر عميق في البنية السياسية والاجتماعية للخلافة الأموية، كما شكّلت رافدًا مهمًا في تشكيل الوعي السياسي الشيعي في مراحله الأولى.

هذا المقال يتناول سيرة المختار الثقفي من خلال دراسة حياته الشخصية، خلفيته الفكرية، مشروعه السياسي، حركته الثورية، علاقته بأهل البيت، الصراعات التي خاضها، والظروف التي أحاطت بمقتله، مع محاولة تحليل الإرث الذي تركه على المستويات العقائدية والسياسية والاجتماعية في التاريخ الإسلامي.

النشأة والبيئة الاجتماعية

ولد المختار بن أبي عبيد الثقفي في مدينة الطائف في العام الأول للهجرة (1هـ/623م). ينتمي إلى قبيلة ثقيف، وهي من القبائل العربية المعروفة بمكانتها السياسية والاجتماعية في الجاهلية والإسلام، وقد لعبت دورًا في الفتوحات الإسلامية بعد وفاة النبي محمد. والده هو أبو عبيد الثقفي، القائد المسلم الذي استشهد في معركة الجسر ضد الفرس سنة 13هـ، وقد ترك استشهاد والده أثرًا كبيرًا في نفس المختار ووجّه تطلعاته السياسية والعسكرية لاحقًا.

نشأ المختار في بيئة محافظة وملتزمة بالإسلام، وقد عُرف منذ صغره بذكائه وفصاحته، كما أظهر ميولاً مبكرة نحو الشؤون العامة ومجالس السياسة، وهو ما شجعه على التقرّب من دوائر الحكم في الكوفة لاحقًا.

الخلفية الفكرية والسياسية

رغم أن المختار لم يُعرف بتفقه كبير في العلوم الشرعية التقليدية، إلا أنه كان سياسيًا بارعًا يتمتع بفهم عميق للواقع الإسلامي والسياسي في زمانه. تأثر بالظروف المضطربة التي سادت بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، والحروب الداخلية التي شقت صفوف المسلمين، مثل معركة الجمل وصفين، وظهور الخوارج. هذه الأحداث شكلت وعيه السياسي ودفعت به للانخراط في العمل الثوري لاحقًا.

من الناحية الفكرية، كان المختار يؤمن بضرورة وجود إمام عادل من آل بيت النبي يتولى قيادة الأمة، وهو ما جعله ينحاز إلى آل البيت ويدعو للإمامة العلوية، ويمهّد لحركته لاحقًا بثأره لدم الحسين. لم يكن المختار من الشيعة الاثني عشرية بالمعنى اللاحق، لكنه يُصنّف ضمن ما عُرف تاريخيًا بـ”الشيعة الكيسانية”، نسبة إلى “كيان” خادم محمد بن الحنفية، وهي طائفة ظهرت في تلك المرحلة وكانت تؤمن بإمامة محمد بن الحنفية بعد الحسين.

الكوفة: مركز الأحداث

الكوفة كانت المسرح الرئيسي لتحركات المختار، وهي المدينة التي احتضنت الكثير من الفتن السياسية في الإسلام المبكر. بعد مقتل الإمام علي وانتقال الخلافة إلى الأمويين، أصبحت الكوفة مركزًا للمقاومة والرفض، خصوصًا من قبل الموالين لأهل البيت. استقر فيها المختار، وكان على علاقة ببعض القادة السياسيين والعسكريين في المدينة، كما استطاع كسب ولاء عدد كبير من أهلها لاحقًا.

عُرف المختار في الكوفة بتوجهه الثوري، وحاول أن يلعب أدوارًا مهمة في تشكيل الوعي السياسي للشيعة فيها. لكنه اصطدم بواقع سياسي معقد؛ فقد كانت الكوفة خاضعة لحكم الأمويين، وتنازع النفوذ فيها وجوه من القبائل العربية والولاء المتضارب بين بني أمية وأهل البيت.

من ثورة الحسين إلى ثأر المختار

حينما خرج الإمام الحسين بن علي إلى الكوفة سنة 61هـ، كان المختار من بين أولئك الذين أيّدوا دعوته، لكنّه لم يتمكن من الانضمام إلى الحسين قبل معركة كربلاء، بسبب اعتقاله من قبل والي الكوفة عبيد الله بن زياد. بعد مقتل الحسين، شكّلت الفاجعة صدمة كبيرة للمختار، وسعى منذ ذلك الحين إلى الثأر من قتلة الحسين، وهي الفكرة التي أصبحت العمود الفقري لحركته.

كان المختار يعتقد أن الثأر للحسين لا يتم إلا بإقامة دولة تتخذ من آل البيت أساسًا لشرعيتها. وعليه، بدأ يخطط لحركته من خلال كسب تأييد الكوفيين وخاصة الموالين لأهل البيت، ودعا إلى إمامة محمد بن الحنفية، الأمر الذي ساعده في توسيع قاعدة أنصاره، الذين اشتهروا باسم “الكيّسانية”.

إعلان الثورة وتأسيس الدولة

في سنة 66هـ، بعد خمس سنوات من مأساة كربلاء، أعلن المختار الثورة في الكوفة، ونجح في طرد والي الأمويين، وسيطر على المدينة بمساعدة أنصاره من الموالي والقبائل التي كانت ناقمة على الأمويين. وبعد أن بسط سلطته على الكوفة، بدأ بملاحقة وقتلة الحسين وتنفيذ أحكام الإعدام بحقهم، وكان أبرزهم: شمر بن ذي الجوشن، عمر بن سعد، وعبيد الله بن زياد، الذين قتلوا جميعًا على يد قواته.

اعتمد المختار في إدارته للمدينة على العدل والقوة، وحاول إقامة نظام يستند إلى المساواة بين العرب والموالي، ما أثار استياء بعض القبائل العربية التي كانت ترفض مساواة الموالي بها. وكان هذا التوجه من المختار يمثل رؤية سياسية متقدمة مقارنة بسياق ذلك العصر، حيث كانت التفرقة الطبقية والعنصرية من السمات السائدة في المجتمع الأموي.

البعد العسكري لحركته

لم يكن المختار مجرد خطيب أو مفكر سياسي، بل كان قائدًا عسكريًا متمرسًا. قام بتشكيل جيش قوي من الكوفيين والموالي، ونجح في تحقيق عدة انتصارات ضد الأمويين، من أبرزها موقعة “الخازر” التي قُتل فيها عبيد الله بن زياد، أحد أبرز قادة الأمويين.

اتسم جيش المختار بالانضباط والتنظيم، ورفع شعار “يا لثارات الحسين”، الذي أصبح رمزًا لحركته، وجذب من خلاله العديد من الأنصار الغاضبين من مذبحة كربلاء. كما أظهر المختار مهارات تكتيكية عالية في توجيه ضربات موجعة للأمويين، ما جعله هدفًا لهم ولحلفائهم من خصومه في العراق.

نهايته ومقتله

رغم نجاحاته العسكرية والسياسية، إلا أن المختار واجه تحديات داخلية وخارجية هائلة. أبرز خصومه كان عبد الله بن الزبير، الذي أعلن نفسه خليفة في الحجاز بعد وفاة يزيد بن معاوية، وأرسل أخاه مصعب بن الزبير للقضاء على ثورة المختار. وبالفعل، نجح مصعب في محاصرة الكوفة، ووقعت معركة شرسة عند “المذار” قرب الكوفة، انتهت بهزيمة قوات المختار.

تحصّن المختار في قصر الإمارة بالكوفة، وبعد مقاومة استمرت لعدة أيام، قُتل سنة 67هـ عن عمر ناهز 40 عامًا. مثّلت وفاته نهاية لمرحلة مهمة من الحركات السياسية الإسلامية، لكنها لم تكن نهاية لفكره، فقد واصل أتباعه نشر فكر الكيسانية، وبقي المختار يُذكر في التراث الشيعي كشخصية ثائرة نذرت نفسها لآل البيت.

الإرث السياسي والديني

حظي المختار الثقفي بمكانة جدلية في التاريخ الإسلامي، فبينما مدحه الشيعة لثأره من قتلة الحسين ودفاعه عن آل البيت، اعتبره بعض المؤرخين السنّة شخصية مارقة أو مغالية. وقد انعكست هذه الرؤى المتباينة في كتب التاريخ، مثل “تاريخ الطبري” و”الكامل في التاريخ” لابن الأثير، حيث يُذكر المختار في سياق الصراعات السياسية والعقائدية التي كانت تحتدم في تلك الفترة.

رغم الجدل حول شخصيته، لا يمكن إنكار أن المختار الثقفي مثّل صوتًا سياسيًا مختلفًا، وكانت حركته من أوائل الحركات التي سعت لتأسيس شرعية دينية وسياسية مستقلة عن الخلافة الأموية. كما أن دعوته للمساواة بين العرب والموالي كان لها أثر كبير على الحركات الثورية اللاحقة، مثل ثورة الزنج وثورة أبي مسلم الخراساني.

الجدول التالي يوضح أبرز الشخصيات التي أعدمها المختار انتقامًا للحسين

الخلاصة

المختار الثقفي هو أحد أبرز الشخصيات السياسية والعسكرية في تاريخ الإسلام المبكر، وقد جسّد بمسيرته ومشروعه الثوري رغبة شريحة واسعة من المسلمين في تحقيق العدالة لآل بيت النبي، ومحاسبة من تسبب في فاجعة كربلاء. كانت حركته انعكاسًا لصراعات اجتماعية وسياسية عميقة، وشكلت نواة أولى لما يمكن اعتباره معارضة سياسية منظمة داخل الدولة الإسلامية.

لم يكن المختار مجرد ثائر، بل كان سياسيًا ذا مشروع واضح، وقائدًا عسكريًا ذا حنكة، ومصلحًا اجتماعيًا سبق عصره بمطالبته بالمساواة بين الموالي والعرب. إن إرثه، رغم ما فيه من جدل، لا يزال حاضرًا في ذاكرة التاريخ الإسلامي، ويمثل فصلًا مهمًا في مسار الحركات الشيعية والثورية عبر القرون.

المراجع:

1. الطبري، “تاريخ الأمم والملوك”، دار الكتب العلمية، بيروت.

2. ابن الأثير، “الكامل في التاريخ”، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت.