اللعب والتعلم لمولودك الجديد: حجر الأساس لنمو صحي وشامل

إن السنوات الأولى من حياة الطفل تُعد مرحلة جوهرية في تشكيل شخصيته، وتطوره الجسدي، والعقلي، والاجتماعي. وخلال هذه الفترة الحساسة، يظن البعض أن الطفل حديث الولادة لا يحتاج إلا للطعام والنوم، غير أن الواقع يُظهر أن التعلم يبدأ منذ اللحظة الأولى التي يفتح فيها الطفل عينيه على العالم. وفي صميم هذا التعلم المبكر يأتي “اللعب”، كوسيلة طبيعية وعميقة التأثير تمكّن الطفل من اكتشاف بيئته، وبناء روابط عصبية قوية، وتطوير المهارات الحركية والمعرفية والاجتماعية.

أهمية اللعب في المراحل الأولى من حياة الطفل

اللعب ليس ترفاً أو تضييعاً للوقت، بل هو النشاط الأساسي الذي يمكّن الطفل من التعلم. وقد أثبتت الأبحاث في مجالات علم الأعصاب وتطور الطفولة أن اللعب يساهم بشكل فعّال في بناء الشبكات العصبية في الدماغ، كما يعزز من قدرات الطفل على الاستيعاب والاستجابة للمؤثرات الحسية من حوله. من خلال اللعب، يتعلم الطفل التعرف على الأشكال، الأصوات، الروائح، والملمس، ويبدأ في تكوين فهم أولي للعلاقات السببية (مثل الضغط على زر لإصدار صوت معين).

اللعب الحسي: استكشاف العالم بحواسه

في الأشهر الأولى من العمر، يعتمد الطفل على حواسه بشكل كبير لاكتشاف العالم. وهنا تأتي أهمية ما يُعرف بـ”اللعب الحسي”، والذي يشمل:

• اللعب البصري: من خلال النظر إلى الوجوه، أو تتبع حركة الألوان الزاهية أو الأشياء المتحركة.

• اللعب السمعي: الاستماع إلى الأصوات المختلفة كصوت الموسيقى، أو صوت الأم، أو الأصوات المحيطة.

• اللعب اللمسي: من خلال ملامسة خامات وأقمشة متنوعة مثل القطن، والحرير، والبلاستيك الناعم.

• اللعب الشمي والذوقي: رغم محدودية استخدام الذوق في الشهور الأولى، فإن للروائح دورًا في تمييز الأشخاص والمحيط.

تؤكد الدراسات أن تقديم تجارب حسية متعددة للطفل يثري قدراته الإدراكية وينشط مناطق متعددة في الدماغ، مما ينعكس إيجابًا على سرعة التعلم والارتباط العاطفي.

أنواع اللعب المناسبة للمولود الجديد

يجب أن تكون الألعاب والأدوات المستخدمة آمنة، ناعمة، ومصنوعة من مواد غير سامة. وهناك أنواع متنوعة من اللعب التي تلائم الأطفال منذ الولادة، ومن أبرزها:

1. ألعاب التفاعل البصري

• الصور ذات التباين العالي: كالأبيض والأسود أو الألوان الزاهية.

• المرايا غير القابلة للكسر: حيث يعشق الطفل النظر إلى وجهه، وهذا يساهم في تطوير الإدراك الذاتي.

• الحلقات والأشكال المعلقة: التي يمكن تثبيتها فوق سرير الطفل لتحفيز التتبع البصري.

2. ألعاب الصوت والحركة

• الخشخيشات الخفيفة: تحفّز الانتباه السمعي وتدعم التنسيق بين اليد والعين.

• صناديق الموسيقى الهادئة: تساهم في تهدئة الطفل وتحفيز الاسترخاء.

• الألعاب التي تصدر أصواتًا ناعمة عند الضغط: تدرب الطفل على السبب والنتيجة.

3. التفاعل الجسدي كنوع من اللعب

• التدليك اللطيف: يُحسّن من الدورة الدموية، ويعزز الترابط العاطفي بين الأم والطفل.

• التربيت والغناء: عبر الأغاني اللطيفة وحركات اليدين.

• اللعب بوضعيات الجسم: كأن يوضع الطفل على بطنه لبضع دقائق يوميًا “Tummy Time” لتقوية عضلات الرقبة والظهر.

الفوائد الإدراكية والنفسية للعب المبكر

اللعب في الشهور الأولى ليس له تأثير جسدي فحسب، بل يمتد أثره إلى النواحي النفسية والاجتماعية والعاطفية. ومن أبرز الفوائد:

• بناء الأمان العاطفي: من خلال التفاعل مع الوالدين والأصوات المألوفة.

• تطوير اللغة والتواصل: حتى قبل أن يبدأ بالكلام، فإن استماع الطفل للغناء والكلام يساعد على تخزين أنماط صوتية وكلمات في ذاكرته.

• تعزيز الفضول والاستكشاف: وهو حجر الأساس في التعلم الذاتي لاحقًا.

• تكوين الهوية الشخصية: عبر التفاعل مع نفسه والآخرين.

مراحل تطور اللعب من الولادة حتى 12 شهراً

البيئة المثالية للعب والتعلم

لا يُشترط وجود غرفة ألعاب فاخرة أو ألعاب إلكترونية لتوفير بيئة محفزة لطفلك. بل إن البساطة غالباً ما تكون الأفضل، إذا ما توافرت الشروط التالية:

• أمان المكان: خلوه من الزوايا الحادة أو المواد السامة أو الأشياء القابلة للابتلاع.

• تنوع المحفزات: وجود عناصر بصرية وصوتية ولمسية مختلفة.

• الهدوء والانضباط الحسي: فلا يجب أن يكون المكان مليئًا بالضوضاء أو الفوضى.

• الروتين اليومي المنظم: يساعد الطفل على توقع النشاطات والاستعداد لها نفسيًا.

دور الوالدين في دعم اللعب والتعلم

الوالدان ليسا مجرد مراقبين للطفل، بل هما الفاعلان الأساسيان في عملية التعلم المبكر. من خلال التفاعل الحسي والعاطفي، والغناء، والتحدث، ومشاركة اللحظات اليومية، يُقدمان للطفل أعمق أشكال اللعب: اللعب الاجتماعي والتفاعلي.

• تحدث مع الطفل حتى لو لم يفهم الكلمات بعد.

• شارك طفلك في تعبيراته، وقلّد ابتساماته وأصواته.

• شجع الاستكشاف دون إجباره أو الضغط عليه.

• راقب ردود أفعاله واهتماماته لتطوير أساليب اللعب الملائمة له.

التنوع الثقافي في اللعب: أهمية التراث والأساليب التقليدية

اللعب ليس نشاطًا معزولًا عن السياق الثقافي، فكل مجتمع يمتلك تراثًا غنيًا من الأغاني، والألعاب اليدوية، والحكايات المصورة التي يمكن استخدامها لتعزيز التواصل والتعلم. مثل:

• الأغاني الشعبية: التي تُغنّى للأطفال منذ القدم وتساهم في تهدئتهم وربطهم بثقافتهم.

• الألعاب اليدوية المصنوعة من مواد طبيعية: كالخشب، والقطن، والقماش.

• القصص القصيرة المصورة: التي يمكن للوالدين سردها بصوت مميز.

مخاطر نقص اللعب على نمو الطفل

الحرمان من اللعب لا يؤثر فقط على الجانب الترفيهي في حياة الطفل، بل يمكن أن يترك آثارًا سلبية بعيدة المدى تشمل:

• تأخر في النطق واللغة.

• ضعف في التفاعل الاجتماعي وتكوين العلاقات.

• بطء في التطور الحركي أو الإدراكي.

• مشاكل في إدارة المشاعر والتعبير عنها لاحقًا.

ولهذا فإن دمج اللعب في الروتين اليومي ليس ترفًا، بل ضرورة تنموية تستحق التخطيط والاهتمام.

اللعب في حالات خاصة: الأطفال الخُدّج أو ذوي الاحتياجات الخاصة

يحتاج الأطفال المولودون قبل أوانهم، أو الذين يعانون من مشاكل صحية أو تأخر نمائي، إلى اهتمام خاص فيما يتعلق باللعب. حيث يجب اختيار أدوات لعب آمنة، ذات طبيعة حسية خفيفة لا تسبب إرهاقًا، كما ينبغي إشراك أخصائيي علاج النطق أو العلاج الحسي في وضع خطة ألعاب مناسبة لكل حالة.

الألعاب الإلكترونية والوسائط الرقمية: هل هي مناسبة؟

توصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بعدم تعريض الأطفال دون سن 18 شهرًا للشاشات، بما في ذلك الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، باستثناء مكالمات الفيديو. فاللعب التفاعلي المباشر مع الأهل هو الأجدى والأكثر فاعلية في هذه المرحلة. حيث إن التعلم الرقمي في هذا العمر لا يحل محل التفاعل البشري الضروري.

استراتيجيات فعالة لتنظيم وقت اللعب

• جدولة اللعب اليومي: ربطه بوقت الاستيقاظ أو بعد الاستحمام.

• تنويع الأنشطة: بين اللمس، والصوت، والحركة.

• تشجيع الاستقلالية تدريجيًا: عبر السماح للطفل بالتفاعل مع الألعاب بنفسه ضمن بيئة آمنة.

• الانتباه إلى الإشارات: مثل البكاء أو الانزعاج، التي قد تعني أن الطفل تعب أو يحتاج للراحة.

اللعب في الرعاية اليومية والمراكز الصحية

يمكن تعزيز أهمية اللعب أيضًا من خلال برامج الرعاية النهارية التي تعتمد على اللعب الموجه، بالإضافة إلى المبادرات الصحية المجتمعية التي توزع أدوات لعب تعليمية مجانية وتقدم للأهالي إرشادات حول كيفية استخدامها.

خاتمة

اللعب والتعلم وجهان لعملة واحدة في حياة المولود الجديد، ولا يمكن الفصل بينهما. فمن خلال لحظات اللعب، يكتشف الطفل نفسه والعالم من حوله، وتتكون اللبنات الأولى لقدراته المعرفية والعاطفية والاجتماعية. وبتوفير بيئة آمنة، تفاعلية، غنية بالمحفزات الحسية، مع رعاية الوالدين واهتمامهم، يمكن وضع أسس متينة لنمو صحي ومتوازن. إن السنوات الأولى لا تُنسى، ولا تعوض، وهي فرصة ذهبية لصنع بداية مشرقة لطفلك، تبدأ بلعبة… ولكن لا تنتهي بها.

المراجع:

• American Academy of Pediatrics. (2018). “Media and Young Minds.” Pediatrics.

• Center on the Developing Child, Harvard University. “InBrief: The Science of Early Childhood Development”.