لا تكن لطيفًا أكثر من اللازم

في مجتمعاتنا التي تشجّع على الكياسة والمجاملة وحسن الخلق، كثيرًا ما يُنظر إلى اللطف على أنه إحدى الفضائل الأساسية في التعامل بين الناس. إلا أن هناك خيطًا رفيعًا يفصل بين اللطف الصحيّ والمحبب، وبين الإفراط فيه إلى درجة تتحول فيها الشخصية إلى أداة طيّعة للآخرين، معرضة للاستغلال النفسي والعاطفي والاجتماعي. هذا الإفراط في اللطف – أو كما يسميه البعض “اللطف المفرط” – ليس مجرد صفة حميدة بل قد يكون أحد أشكال السلوكيات السلبية المتخفية خلف قناع اجتماعي مقبول، ينتج عنها اضطرابات في الهوية الذاتية، وتآكل في الثقة بالنفس، ومشاعر دفينة من الغضب والكبت.

مفهوم “اللطف المفرط”

اللطف المفرط هو الميل الدائم لتقديم التنازلات، وتجنب المواجهة، والسعي الدائم لإرضاء الآخرين ولو على حساب النفس. هذا السلوك لا ينبع من أخلاق سامية فحسب، بل غالبًا ما يكون ناتجًا عن احتياجات نفسية عميقة، مثل الحاجة للقبول أو الخوف من الرفض أو الهجر، أو الرغبة في أن يُنظر إلى الشخص على أنه “جيد” و”لا يُرفض”.

هؤلاء الأشخاص يظهرون غالبًا على أنهم مثاليون، خدومون، دائمًا ما يقولون “نعم”، حتى حين يكون الرفض هو القرار المنطقي. يتجنبون الخلافات، يعتذرون عن أخطاء لم يرتكبوها، ويقمعون مشاعرهم السلبية خوفًا من إزعاج الآخرين. في الظاهر، يبدو هذا سلوكًا متزنًا وناضجًا، لكنه في الواقع يعكس اضطرابًا داخليًا عميقًا.

الجذور النفسية للإفراط في اللطف

غالبًا ما يرتبط اللطف الزائد بطفولة شهدت ديناميكيات أسرية غير صحية. الطفل الذي نشأ في بيئة لا تُلبى فيها احتياجاته العاطفية إلا عندما يكون “جيدًا” و”مطيعًا” و”مرضيًا للآخرين”، سيتعلم لاحقًا في حياته أن حبه وقبوله مرتبطان بإرضاء الآخرين وتلبية رغباتهم. كما أن التربية التي تعاقب على التعبير عن الغضب أو الاعتراض تُسهم في غرس فكرة أن المشاعر السلبية عيب أو ضعف يجب كبته، مما يؤدي إلى نمط من الطاعة غير المشروطة.

في السياق نفسه، يعاني بعض الأشخاص من اضطرابات القلق الاجتماعي، أو ما يُعرف باضطراب الشخصية الاعتمادية، حيث يسعى الفرد بشكل مفرط لتجنب فقدان العلاقات ولو على حساب ذاته.

مظاهر اللطف المفرط

1. التضحية الدائمة بالاحتياجات الشخصية: حيث يضع الشخص حاجات الآخرين في مقدمة أولوياته دائمًا، ويؤجل أو يتجاهل حاجاته ورغباته الخاصة.

2. الخوف من قول “لا”: حتى عندما يكون الطلب غير معقول أو منهك، يصعب على الشخص اللطيف جدًا الرفض، خشية أن يُفهم بأنه أناني أو غير متعاون.

3. التسامح الزائد: يبرر الإساءة، ويتغاضى عن الانتهاكات المتكررة لحدوده الشخصية، ولا يعبر عن مشاعره الحقيقية حيال ذلك.

4. الاعتذار الدائم: يميل للاعتذار حتى عن أشياء لم تكن مسؤوليته، في محاولة دائمة لتخفيف أي توتر محتمل.

5. الانزعاج من إرضاء الذات: يشعر بالذنب إذا اهتم بنفسه أو وضع مصلحته فوق مصلحة الآخرين.

6. القلق من الرفض أو الانفصال: يعيش في توتر دائم خشية أن يخسر علاقاته إذا لم يتصرف بلطف مفرط.

العواقب النفسية والاجتماعية

اللطف المفرط يؤدي على المدى البعيد إلى نتائج وخيمة على الصحة النفسية. فعندما يقمع الشخص ذاته باستمرار، يبدأ يشعر بالإرهاق العاطفي، ويعاني من احتراق داخلي بسبب التوتر المزمن الناتج عن محاولة إرضاء الجميع.

قد تتكون داخله مشاعر كبت وغضب لا يُعبر عنها، تؤدي لاحقًا إلى انفجارات غضب غير متوقعة، أو إلى أعراض جسدية مثل الصداع، اضطرابات النوم، أو مشكلات في الجهاز الهضمي. كما أن الإفراط في اللطف يجعل الشخص أكثر عرضة للاستغلال من قِبل المتلاعبين والنرجسيين.

اجتماعيًا، يكون اللطيف أكثر من اللازم هدفًا سهلًا للاستغلال في بيئات العمل والعلاقات الشخصية، حيث يُتوقع منه أن يؤدي مهامًا إضافية، أو يُجبر على التنازل دون اعتراض. وهذا ما يخلق علاقات غير متوازنة، يشعر فيها الشخص أنه يُستنزف ولا يُقدَّر.

اللطف الصحي مقابل اللطف المفرط

العلاج والتحول

التخلص من نمط “اللطف المفرط” لا يعني التحول إلى شخصية عدوانية أو أنانية، بل إلى شخص متوازن، يعرف متى يعطي، ومتى يضع الحدود. أول خطوة في هذا التحول هي الوعي الذاتي، أن يدرك الفرد أنه يتصرف بدافع الخوف وليس بدافع القيم الحقيقية.

يحتاج الشخص إلى:

1. تعلم قول “لا” دون شعور بالذنب، والتمرن على ذلك تدريجيًا.

2. الاعتراف بالمشاعر وعدم إنكار الغضب أو الإحباط، بل التعبير عنه بأسلوب صحي.

3. التدريب على وضع الحدود، وعدم السماح بتجاوزها دون تدخّل حازم.

4. بناء احترام الذات على أساس داخلي لا يتأثر بتقييم الآخرين.

5. العمل مع مختص نفسي في حال كان اللطف المفرط مرتبطًا بجذور نفسية عميقة أو صدمات سابقة.

في البيئة المهنية والعلاقات العاطفية

في بيئات العمل، الإفراط في اللطف قد يضعف من احترام الزملاء لك، ويجعلك دائمًا في موقع “المُعطي” دون مقابل. في العلاقات العاطفية، قد يؤدي إلى اختلال في ميزان العلاقة، إذ يصبح الطرف الآخر هو المتحكم، ويتحول اللطيف إلى تابع يبحث عن الرضا والموافقة بشكل دائم.

يحتاج الأفراد إلى إعادة تقييم سلوكياتهم وتحديد إذا ما كانوا يعانون من اللطف الزائد، لأن ذلك هو مفتاح إعادة التوازن إلى حياتهم العاطفية والاجتماعية والمهنية.

اللطف الناضج كقيمة متوازنة

التحول من “اللطف المفرط” إلى “اللطف الناضج” يتطلب وعيًا عميقًا بطبيعة الذات. اللطف الحقيقي لا يعني أن تعيش لإرضاء الآخرين، بل أن تعيش متصالحًا مع نفسك، قادرًا على العطاء دون أن تفقد ذاتك، وأن تكون كريمًا في المشاعر دون أن تُستغل، وأن تكون صادقًا دون أن تُخضع ذاتك باستمرار لأهواء الآخرين.

اللطف الناضج هو الذي يُمارس من موقع قوة وليس من موقع ضعف، من منطلق اختيار حر وليس من باب الشعور بالواجب أو الخوف من العواقب. إنه اللطف الذي لا يعني التواطؤ على الذات، بل التعاطف مع النفس قبل التعاطف مع الآخرين.

المراجع

1. Susan Newman, The Book of No: 365 Ways to Say It and Mean It, McGraw-Hill, 2006.

2. Harriet B. Braiker, The Disease to Please: Curing the People-Pleasing Syndrome, McGraw-Hill, 2001.