القيادة من خلال الشجاعة العاطفية: ركيزة أساسية في زمن التحديات المعقدة

في عالم يتسم بالتغيير السريع، والضغوط النفسية المتصاعدة، والتعقيد المتزايد في العلاقات المؤسسية، تبرز الشجاعة العاطفية كأحد أعمدة القيادة الحديثة، ليس فقط كصفة شخصية محمودة، بل كقوة استراتيجية جوهرية تمكّن القادة من التأثير الإيجابي في بيئات عملهم، وتحفيز فرقهم، واتخاذ قرارات صعبة دون أن يفقدوا إنسانيتهم أو بوصلتهم الأخلاقية. إن القيادة من خلال الشجاعة العاطفية لا تعني تحييد المشاعر أو إنكارها، بل تعني القدرة على مواجهتها، والعيش معها، واستخدامها كبوصلة للقرار والوعي الذاتي.

تعريف الشجاعة العاطفية

الشجاعة العاطفية هي القدرة على التعامل مع المشاعر القوية أو المؤلمة – سواء كانت مشاعر خجل، أو قلق، أو حزن، أو غضب – دون الهروب منها أو التصرف تحت تأثيرها بشكل اندفاعي أو تدميري. إنها مهارة نفسية مركّبة تسمح للفرد بالوقوف وسط العاصفة الشعورية دون أن يفقد اتزانه، مما يمنحه القدرة على التصرف بوضوح وعقلانية وإنسانية في ذات الوقت.

في سياق القيادة، تصبح هذه الشجاعة أداة حيوية لبناء الثقة، وخلق بيئة عمل شفافة وآمنة، وتعزيز ثقافة المساءلة والابتكار.

الفرق بين القيادة التقليدية والقيادة من خلال الشجاعة العاطفية

على عكس النماذج القيادية التقليدية التي ترتكز على السيطرة، والقرارات الباردة، والعزلة الانفعالية، تقدم القيادة من خلال الشجاعة العاطفية نموذجاً أكثر واقعية وإنسانية. القائد الشجاع عاطفياً لا يخشى مشاركة نقاط ضعفه، ولا يخجل من الاعتراف بالأخطاء، بل يستخدم هذه اللحظات لتقوية التواصل، وبناء العلاقات، وتحقيق التحول الإيجابي.

الأبعاد الأساسية للشجاعة العاطفية في القيادة

1. الوعي الذاتي العميق
   
   القيادة الشجاعة تبدأ من الداخل. يحتاج القائد إلى أن يكون على وعي كامل بمشاعره، وأسبابها، وتأثيرها على قراراته وتفاعلاته. هذا الوعي يساعده على كسر أنماط القيادة غير الواعية، والانتقال إلى نمط أكثر حضوراً وتفاعلاً.

2. تحمّل المشاعر غير المريحة دون الهروب منها
   
   ليست الشجاعة العاطفية في تجنب الغضب أو القلق، بل في الشعور بهما دون السماح لهما بقيادة السلوك. القائد الشجاع عاطفياً يستطيع التوقف والتنفس وسط الانفعال، مما يتيح له التصرف بحكمة واتزان.

3. الصدق والشفافية في التعبير عن الذات
   
   القائد الذي يتحلى بالشجاعة العاطفية لا يخشى أن يقول: “أنا لا أعلم” أو “لقد أخطأت”، وهو ما يعزز الاحترام المتبادل، ويشجع الآخرين على الصراحة والانفتاح بدورهم.

4. التعاطف الحقيقي مع الآخرين
   
   الشجاعة العاطفية تخلق فضاءً للتعاطف لا للحكم. القائد يفهم تجارب الآخرين الشعورية، ويستطيع الاستماع بإنصات، دون أن يُسقط عليها توقعاته أو تحيزاته الخاصة.

5. القدرة على اتخاذ قرارات صعبة بقلوب مفتوحة
   
   حتى أصعب القرارات (كالاستغناء عن موظف أو تغيير استراتيجية مؤسسة) يمكن اتخاذها بشجاعة ووضوح وتعاطف. القائد الشجاع عاطفياً لا يتجنب القرارات المؤلمة، لكنه يتخذها بطريقة تحترم كرامة الإنسان وتراعي القيم الجوهرية.

أهمية الشجاعة العاطفية في بيئة العمل الحديثة

في بيئة مليئة بالتقلبات الاقتصادية، وضغوط الأداء، وتنوع الخلفيات الثقافية والنفسية، يصبح القائد الذي يتجاهل البعد العاطفي عاجزاً عن فهم الدوافع العميقة لفريقه، مما يؤدي إلى تآكل الثقة، وارتفاع معدلات الاستنزاف، وتراجع روح الفريق. أما القائد الشجاع عاطفياً فيتمكن من:

• خلق ثقافة نفسية آمنة، حيث يشعر الجميع أن بإمكانهم التحدث دون خوف من الإقصاء أو السخرية.

• تعزيز التعاون الأصيل، القائم على الفهم المتبادل وليس المصالح الفردية.

• تقليل النزاعات وتحويلها إلى فرص للنمو والتفاهم.

• بناء ولاء حقيقي تجاه المؤسسة وليس فقط نحو الأجر أو المنصب.

تطبيقات عملية للقيادة بالشجاعة العاطفية

1. إدارة الاجتماعات
   
   يمكن للقائد أن يخصص وقتاً لسماع مشاعر الفريق حول مشروع معين أو قرار تنظيمي، دون مقاطعة أو تقييم. هذا لا يضعف سلطة القائد بل يقويها لأنه يظهر احترامه للإنسان داخل كل موظف.

2. المواجهة البنّاءة
   
   بدلاً من تجنب الحديث مع الموظف الذي لا يؤدي جيداً، يستخدم القائد الشجاع عاطفياً لغة مباشرة ولكن غير مؤذية، مثل: “ألاحظ أن هناك تأخراً في تسليم المهام، كيف يمكنني دعمك؟”.

3. قيادة التغيير
   
   التغيير يثير المخاوف والقلق، وهنا يظهر دور الشجاعة العاطفية في الاعتراف بهذه المشاعر الجماعية، وتقديم الدعم النفسي والمعنوي مع الوضوح بشأن التوقعات.

4. الاعتذار عند الخطأ
   
   الاعتذار الصادق من قائد لفريقه عندما يرتكب خطأ يرسّخ ثقافة التواضع ويحفّز الآخرين على التصرف بذات الطريقة.

5. التغذية الراجعة الفعّالة
   
   يستخدم القائد الشجاع عاطفياً أسلوب “الملاحظات غير المؤذية” التي تركز على السلوك وتأثيره، وليس على الشخص ذاته، ما يعزز التحسن دون الإضرار بالكرامة.

تحديات القيادة بالشجاعة العاطفية

رغم فوائدها الجمة، فإن تبني هذا النوع من القيادة ليس سهلاً. من أبرز التحديات:

• ثقافة الكتمان والخوف المنتشرة في بعض المؤسسات، والتي تعتبر التعبير عن المشاعر ضعفاً أو تهديداً للسلطة.

• افتقار القادة للتدريب العاطفي والنفسي، إذ غالباً ما يُهمل هذا الجانب في برامج تطوير القيادات.

• المخاوف الشخصية للقائد نفسه من فقدان السيطرة أو الاحترام إذا بدا “ضعيفاً” في لحظات معينة.

لكن من خلال الممارسة اليومية، والدعم المؤسسي، والنمذجة من قبل قادة أعلى، يمكن لهذه الثقافة أن تُزرع وتزدهر، وتنتقل من كونها خياراً فردياً إلى كونها نهجاً مؤسسياً.

نماذج عالمية في القيادة بالشجاعة العاطفية

عدد من القادة في العالم أثبتوا، من خلال مواقفهم العلنية والخاصة، أهمية الشجاعة العاطفية في بناء مؤسسات ناجحة وإنسانية. على سبيل المثال:

• جاكويندا أرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة: قادت بلدها خلال أزمات كبيرة مثل مجزرة كرايستشيرش وجائحة كورونا بأسلوب جمع بين الحزم والرحمة، مما أكسبها احتراماً دولياً ومحلياً كبيراً.

• ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت: أعاد تشكيل ثقافة الشركة عبر تعزيز القيم الإنسانية، والاستماع للموظفين، وتشجيع التعاطف، ما ساهم في رفع الإنتاجية والابتكار.

كيف يمكن للمؤسسات دعم القيادة من خلال الشجاعة العاطفية؟

لتحقيق تحول مؤسسي نحو هذا النوع من القيادة، يجب على المؤسسات:

1. إدماج الذكاء العاطفي في برامج تطوير القادة، ليصبح جزءاً أساسياً من معايير التقييم والترقية.

2. خلق بيئة تحفّز التعبير الحر والآمن عن المشاعر، من خلال مدونات سلوك واضحة، وتدريب الموظفين على الحوار البنّاء.

3. مكافأة السلوكيات القيادية الأصيلة والشجاعة، لا فقط الإنجازات الرقمية أو المادية.

4. توظيف مستشارين وخبراء في التنمية النفسية داخل فرق الموارد البشرية لدعم القادة والفرق في المواقف الصعبة.

الخلاصة

القيادة من خلال الشجاعة العاطفية ليست ترفاً أو اتجاهًا عصرياً، بل ضرورة ملحة تفرضها طبيعة العصر الحديث الذي تتشابك فيه الأبعاد النفسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل غير مسبوق. القائد الذي يستطيع النظر إلى نفسه والآخرين بعينٍ إنسانية شجاعة، هو القادر على إحداث التغيير الحقيقي، وبناء مؤسسات تتميز بالثقة، والتماسك، والقدرة على الصمود في وجه التحديات.

المصادر:

1. Susan David, Emotional Agility: Get Unstuck, Embrace Change, and Thrive in Work and Life, Penguin Random House, 2016.

2. Daniel Goleman, Emotional Intelligence: Why It Can Matter More Than IQ, Bantam Books, 2006.