القبول من الله: مفهومه وآثاره في حياة المسلم
القبول من الله تعالى هو غاية المؤمن وهدفه الأسمى في جميع أفعاله وأقواله وعباداته وسعيه في الحياة، لأنه المعيار الحقيقي الذي يوزن به العمل ويترتب عليه الثواب الأخروي والرضا الإلهي. ليس النجاح في الظاهر، ولا كثرة الأعمال، ولا إعجاب الناس، هو الدليل على أن العمل مقبول، بل القبول أمر غيبي لا يطلع عليه إلا الله، غير أن هناك دلائل وعلامات يمكن أن يُستأنس بها. يدور مفهوم القبول في دائرة العلاقة بين العبد وربه، وهو مرتبط بالإخلاص، وصحة النية، والمتابعة لشرع الله، والصدق، والتقوى، والورع، والتواضع.
القبول من الله: تعريفه في ضوء القرآن والسنة
القبول لغةً هو الرضى والإذعان والموافقة. وشرعاً هو رضا الله عن عبده بعمله وإثابته عليه، ويُفهَم من ذلك أنّ العمل المقبول هو ما اجتمع فيه شرطان أساسيان: الإخلاص لله والموافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى:
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]
وهذا يعني أن القبول مشروط بالتقوى، أي أن يكون العبد خائفًا من الله، راجيًا لثوابه، متجنبًا لمعصيته، مخلصًا له في عبادته. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
“إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” [متفق عليه]، وهذا يدل على أن نية العمل أساس في قبوله.
الفرق بين العمل الظاهر والقبول الحقيقي
كثير من الناس يغترّون بكثرة الأعمال، أو حسن ظواهرهم، أو ثناء الناس عليهم، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن أعمالهم مقبولة عند الله. فالقبول لا يُعرف بكثرة الصلاة أو الصيام فحسب، وإنما بالنية والإخلاص والصدق مع الله. قال الإمام الفضيل بن عياض:
“إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة”.
وهذا يظهر بجلاء أن الميزان الإلهي ليس كمّياً بل نوعي، وأنّ الله لا ينظر إلى صور الأعمال ولكن إلى مقاصدها وقلوب أصحابها.
علامات القبول من الله
رغم أن القبول أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، فقد ذكر العلماء والمربّون الربانيون علامات تُستأنس بها للدلالة على أن العمل قد قُبِل، ومن أهمها:
1. الاستقامة بعد الطاعة
من دلائل القبول أن يثمر العمل الطيب أثراً دائماً في حياة الإنسان، كأن يصبح أكثر التزاماً وتقوى وورعاً بعد الحج، أو رمضان، أو أداء عبادة عظيمة. قال بعض السلف:
“ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وعقوبة السيئة السيئة بعدها”.
2. التواضع وعدم الغرور
من يقبل الله عمله يرزقه تواضعاً وخشية ويقيناً بأنه لم يُقدِّم شيئاً يليق بجلال الله. أما من يظن أنه عمل عملاً عظيمًا فهو في خطر الرياء والغرور.
3. دوام الطاعة
القبول يتبعه غالباً حرص على المداومة على الأعمال الصالحة، كما قال الله تعالى:
﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]، قال عائشة: “هم الذين يُصلّون ويصومون ويتصدقون ويخافون أن لا يُقبل منهم”.
4. حب الطاعة وكراهية المعصية
إذا أحب العبد الطاعة واشتاق لها ونفر من المعصية، فهذه علامة على حياة قلبه ونقاء سريرته، وهي من ثمرات القبول.
5. خشية العبد من عدم القبول
الخوف من رد العمل وعدم قبوله علامة على صدق الإيمان. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
“كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً من العمل، ألم تسمعوا إلى قول الله: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾؟”
نماذج قرآنية لقصص القبول
القرآن الكريم عرض صورًا متعددة تُجسّد لنا معنى القبول، ومن أهمها:
1. قصة هابيل وقابيل
في سورة المائدة، يُبيِّن الله أن هابيل قدم قرباناً فتقبله الله منه، أما قابيل فلم يُتقبَّل منه، لأنه لم يكن من المتقين.
﴿فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡآخَرِ﴾ [المائدة: 27].
2. قصة مريم عليه السلام
قال تعالى في سورة آل عمران:
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتٗا حَسَنٗا﴾ [آل عمران: 37].
وهذا يدل على أن القبول لا يعني فقط الرضا، بل يشمل التنشئة والتزكية والرفعة والاصطفاء.
أثر القبول في حياة المسلم
القبول من الله ليس مجرد فضل إلهي، بل ينعكس تأثيره المباشر على سلوك المسلم، وإيمانه، ونظرته إلى الحياة. ومن أهم آثاره:
– الطمأنينة القلبية
من اطمأن إلى قبول الله له، عاش حياة مستقرة مطمئنة، لا تزعزعه تقلبات الدنيا ولا يحزنه ذمّ الناس أو مدحهم.
– الثبات على الطريق
من أُكرم بالقبول فإنه غالبًا ما يُثبَّت على الطاعة ويستمر على الخير، فلا يعود إلى الغفلة بعد أن ذاق حلاوة القرب.
– ارتفاع المقام عند الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض” [متفق عليه].
وهذا القبول الأرضي هو أثر للقبول السماوي.
– الإلهام للصواب والخير
العبد المقبول يُلهَم الحكمة، ويسدَّد رأيه، ويُوفق في اختياراته، لأنه يمشي بنور الله، ويعيش في ظل رعايته.
جدول: مقارنة بين العمل المقبول والمردود
| العنصر | العمل المقبول | العمل المردود |
|---|---|---|
| النية | خالصة لله | فيها رياء أو غفلة |
| الموافقة للشرع | موافق لهدي النبي ﷺ | فيه بدعة أو مخالفة |
| أثر العمل على النفس | تواضع، خشية، استقامة | غرور، عجب، انقطاع عن الطاعة |
| الأثر الاجتماعي | دعوة للخير، مودة بين الناس | فتنة، فُرقة، رياء |
| النتائج الروحية | نور في القلب، سكينة، تقوى | قسوة القلب، بعد عن الله |
| المرجعية في العمل | القرآن والسنة | الهوى أو العادة أو الثقافة الغالبة |
سبل نيل القبول من الله
لكي ينال العبد القبول، ينبغي له أن يسلك سبلاً عملية وروحية ترتقي به إلى مراتب الرضا الإلهي، ومنها:
– الإخلاص المطلق
لا يُتقبَّل العمل إلا إذا أُريد به وجه الله وحده، بلا نظر لثناء الناس أو مكانة اجتماعية.
– التقوى والخشية
قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ﴾، فالتقوى هي جواز المرور إلى القبول.
– الحرص على السنّة
كل عمل لا يستند إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم مردود على صاحبه، ولو اجتهد فيه. قال عليه الصلاة والسلام:
“من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد” [رواه مسلم].
– الدعاء بالقبول
الدعاء من أعظم الوسائل التي يُستجلب بها القبول، كما كان الخليل إبراهيم عليه السلام يقول:
﴿رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127].
– مراجعة النفس وتزكيتها
العبد الذي يفتّش في نواياه، ويحاسب نفسه باستمرار، أقرب إلى القبول ممن يعيش في غفلة أو استعلاء.
الخاتمة: القبول طريق النجاة
القبول من الله هو الغاية العظمى التي يسعى لها المؤمن الصادق. فهو يعلم أن العبرة ليست بكثرة العمل ولكن بصحته، ولا بالمظاهر ولكن بالنيات، ولا برضا الناس ولكن برضا الله. وكل عبد عاقل يعمل لوجه الله ويرجو رحمته ويخاف عذابه، عليه أن يسعى للقبول بالتقوى والإخلاص والمتابعة والدعاء والخشية، ليكون ممن قال فيهم الله تعالى:
﴿رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ﴾ [التوبة: 100].
المراجع
-
ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم.
-
ابن القيم، مدارج السالكين.
