الفرق بين علم اليقين وعين اليقين
تعد مسألة “علم اليقين” و”عين اليقين” من المواضيع التي تعكس بُعدًا فكريًا عميقًا في فهم الإدراك والمعرفة في الفلسفة الإسلامية والعلمية. بينما يربط المفهوم الأول، علم اليقين، بالمعرفة النظرية التي تنبع من الفكر والدليل العقلي، يميز “عين اليقين” بأنها المعرفة الحسية المستمدة من التجربة المباشرة. سنعرض في هذا المقال الفرق بين علم اليقين وعين اليقين بشكل موسع، ونوضح كيف أن كل منهما يمثل مستوى مختلفًا من الفهم والتجربة.
تعريف علم اليقين
علم اليقين هو المعرفة اليقينية التي تكون مستندة إلى الأدلة العقلية والحقائق الثابتة. وهي الدرجة الأولى من درجات اليقين التي يصل إليها الإنسان عبر التفكير العقلي والنظر في الأدلة التي تؤكد صحة الحقائق. يعتمد علم اليقين على الفهم النظري الذي لا يتجاوز الاستنتاجات التي تستند إلى الأدلة المنطقية والمعلومات المعقولة.
على سبيل المثال، عندما نقول إن “الشمس تشرق كل يوم من الشرق”، فإن هذا البيان قد يبدو بديهيًا بالنسبة لنا. لكن إذا تأملنا فيه، نجد أن هذا الفهم قائم على دليل علمي وتراكم معرفي طويل يعزز ما نعلمه نظريًا. وبالرغم من أننا نعلم أن الشمس تشرق من الشرق، فإن هذه المعرفة تظل علمًا يقينيًا يعتمد على المعلومات النظرية التي تلقيناها أو استنبطناها من المعطيات العلمية.
تعريف عين اليقين
في مقابل ذلك، عين اليقين تمثل المعرفة التي نكتسبها من خلال التجربة المباشرة أو الملاحظة الحسية. فهي درجة أعلى من اليقين، حيث أن الشخص لا يحتاج إلى أن يكون مقتنعًا من خلال المعلومات النظرية أو الاستدلال العقلي، بل يدرك الحقيقة بنفسه عبر الحواس. يمكننا أن نقول إن عين اليقين هي المعرفة التي نشعر بها أو نراها بأعيننا، وهذه المعرفة لا تحتمل الشك لأنها مستمدة من التجربة الشخصية المباشرة.
عند رؤية شخص للغروب أو الشروق بأم عينيه، فإنه يحصل على يقين حسي مباشر يجعل لديه “عين اليقين” في الأمر، بمعنى أنه يدرك هذه الحقيقة بأحاسيسه الشخصية. وهذه المعرفة لا تحتاج إلى دليل علمي أو استدلال عقلي، بل تعتمد على التجربة المباشرة التي يقابلها الإنسان.
الفرق بين علم اليقين وعين اليقين
إن الفرق بين علم اليقين وعين اليقين يكمن بشكل رئيسي في مستوى الإدراك ودرجة التأكد التي يعتمد عليها كل منهما. حيث إن “علم اليقين” هو إدراك نظري يتراكم عبر الزمن من خلال الاستدلال العقلي، بينما “عين اليقين” هو إدراك حسي وتجربة شخصية لا يحتاج فيها الإنسان إلى دليل خارجي ليقتنع.
من جانب آخر، يمكن تشبيه الفرق بينهما بما يحدث في التجربة اليومية. فمثلًا، إذا كان لديك علم يقيني بأن هناك حريقًا في مكان ما بناءً على تقارير الأخبار أو استماعك لحديث شخص آخر عن الحريق، فهذا يمثل علم اليقين. أما إذا كنت قد شاهدت الحريق بأم عينيك، فهذا يشكل “عين اليقين”، حيث أنك أدركت الحقيقة مباشرة.
درجة يقين أخرى: قلب اليقين
علاوة على علم اليقين وعين اليقين، هناك ما يُسمى “قلب اليقين”، وهو درجة أخرى تتسم بالعمق الروحي والنفسي في المعرفة. يرتبط قلب اليقين بالشعور الداخلي الذي يتجسد في القلب والعقل عندما يتحول العلم الحسي أو العقلي إلى حالة من الراحة النفسية والاطمئنان. ففي حين أن علم اليقين يرتبط بالفكر، وعين اليقين يرتبط بالحواس، فإن قلب اليقين يذهب أبعد من ذلك ليشمل الإيمان العميق والمشاعر الداخلية التي تجعل الإنسان يعيش اليقين بحسه الداخلي.
تطبيقات علم اليقين وعين اليقين في حياتنا اليومية
في الحياة اليومية، نجد أن كلا من علم اليقين وعين اليقين يلعبان دورًا مهمًا في اتخاذ القرارات وفهم العالم من حولنا. على سبيل المثال، إذا كان شخص يدرس الطب، فإنه يبني علمه على معلومات علمية وتجريبية أكسبته علم اليقين حول كيفية تشخيص الأمراض وعلاجها. لكنه في الواقع عندما يواجه مريضًا حقيقيًا، يصبح لديه “عين اليقين” عندما يرى الحالة المرضية بنفسه، ويتخذ القرارات بناءً على معرفته المباشرة.
الأمر نفسه ينطبق على مجالات متعددة من الحياة، مثل الهندسة، أو الاقتصاد، أو الفنون، حيث لا تقتصر المعرفة على الفهم النظري فقط بل تشمل أيضًا التطبيق العملي والتجربة الشخصية المباشرة التي تعطي يقينًا أعلى وأوضح.
الفرق من وجهة نظر دينية
من وجهة نظر دينية، يُنظر إلى علم اليقين وعين اليقين بطرق قد تحمل أبعادًا أعمق. ففي العديد من التعاليم الإسلامية، يتم التأكيد على أهمية الإيمان باليقين، حيث يشير علم اليقين إلى المعرفة التي يتم الحصول عليها من خلال القرآن والسنة، بينما يُنظر إلى عين اليقين على أنها تجربة حقيقية تدركها النفس عندما يختبر الإنسان معاني هذه المعرفة بشكل مباشر في حياته اليومية.
في القرآن الكريم، يُقال عن علم اليقين وعين اليقين في آيات متعددة، حيث يُبين الفرق بين من يؤمن بالعلم النظري ومن يختبر الحقيقة بنفسه. على سبيل المثال، في سورة التكاثر، يقول الله تعالى: “كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ” (التكاثر: 6)، وهو ما يشير إلى العلم اليقيني الذي يقود إلى رؤية الجحيم، أي أن الشخص يدرك الحقيقة الحسية بتجربة عين اليقين.
الفروق بينهما من منظور فلسفي
من منظور فلسفي، يعتبر الفيلسوف اليوناني أفلاطون أن الحقيقة لا تتحقق إلا من خلال “المعرفة الحسية” التي تُمثل عين اليقين. لكنه في الوقت نفسه اعترف بأن المعرفة الحقيقية لا تتحقق إلا من خلال “المعرفة العقلية” أو “التفكير المجرد” الذي يُعبّر عن علم اليقين. بذلك يكون كل من علم اليقين وعين اليقين جزءًا لا يتجزأ من تكامل الفكر البشري في فهم الحقيقة.
أما الفيلسوف الفرنسي ديكارت، فقد جادل بأن “الشك” هو بداية كل يقين، حيث اعتقد أن المعرفة الحقيقية تبدأ عندما يشك الإنسان في كل شيء حتى يصل إلى اليقين العقلي المتمثل في قوله المشهور “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. هذه الفكرة تعكس الفارق الجوهري بين علم اليقين وعين اليقين، حيث أن الأول يعتمد على القدرة العقلية على الوصول إلى حقائق ثابتة بناءً على الاستدلالات، في حين أن الثاني يعتمد على القدرة الحسية التي تُتيح للفرد الوصول إلى حقائق في العالم المحسوس.
الخلاصة
إن الفرق بين علم اليقين وعين اليقين هو فارق بين المعرفة العقلية المجردة والتجربة الحسية المباشرة. فعلم اليقين يعتمد على الاستدلال العقلي والأدلة النظرية التي تقود إلى الوصول إلى الحقيقة، بينما عين اليقين تتجسد في المعرفة التي يتم الحصول عليها من خلال الحواس والملاحظة الشخصية. يمثل كل من هذين النوعين من اليقين مستويين مختلفين من الإدراك، يلتقيان في نقاط معينة ليقدما للإنسان وسيلة أكثر شمولية لفهم الواقع والحقيقة.
