الفرق بين الاحتراق الذاتي والاكتئاب: فهم دقيق لحالتين نفسيّتين مختلفتين رغم التشابه

يُعدّ كل من “الاحتراق الذاتي” و”الاكتئاب” حالتين نفسيّتين معقدتين تؤثّران في جودة حياة الأفراد وأدائهم العام، سواء على مستوى الصحة الجسدية أو النفسية أو الأداء المهني والاجتماعي. ورغم وجود أوجه تشابه في الأعراض السطحية بين الحالتين، إلا أن هناك اختلافات جوهرية من حيث الأسباب، المسار العلاجي، آليات الظهور، وتأثير كل حالة على الفرد. هذا الفهم الدقيق له أهمية بالغة، ليس فقط للأشخاص المصابين، بل أيضاً للمحيطين بهم، وللمهنيين في مجال الصحة النفسية والموارد البشرية.

أولاً: تعريف الاكتئاب

الاكتئاب هو اضطراب نفسي مُعترف به طبياً ضمن تصنيفات الأمراض النفسية في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، ويتميز بمجموعة من الأعراض المزمنة التي تؤثر في الحالة المزاجية، التفكير، السلوك، والمشاعر. وقد يستمر لأسبوعين على الأقل أو لفترات أطول، مسبّباً خللاً واضحاً في الوظائف اليومية.

أبرز أعراض الاكتئاب

• شعور دائم بالحزن أو الفراغ.

• فقدان الاهتمام أو المتعة بالأنشطة التي كانت محببة.

• تغيرات في الشهية والوزن.

• اضطرابات في النوم (الأرق أو النوم المفرط).

• الشعور بالذنب أو عدم القيمة.

• صعوبة في التركيز أو اتخاذ القرار.

• أفكار متكررة عن الموت أو الانتحار.

• تراجع في الأداء المهني أو الدراسي أو الاجتماعي.

الأسباب والعوامل المؤثرة

• عوامل بيولوجية: مثل التغيرات في كيمياء الدماغ، ونقص في بعض النواقل العصبية كالسيروتونين والدوبامين.

• عوامل وراثية: وجود تاريخ عائلي للمرض يزيد من احتمالية الإصابة.

• عوامل بيئية ونفسية: مثل الصدمات، الفقدان، الفشل المتكرر، أو التعرض للعنف والإهمال.

ثانياً: تعريف الاحتراق الذاتي (Burnout)

الاحتراق الذاتي هو حالة من الإرهاق النفسي والجسدي والعقلي، تنتج عن تعرض الفرد لضغوط مزمنة في العمل أو في بيئة تتطلب جهداً عاطفياً كبيراً. وقد تم التعرف على الاحتراق الذاتي كظاهرة مهنية وليس كتشخيص سريري في تصنيف منظمة الصحة العالمية (ICD-11).

أبرز أعراض الاحتراق الذاتي

• الإجهاد العاطفي المستمر: الشعور بالإرهاق الذهني والجسدي الدائم.

• التبلد والانفصال العاطفي: الميل إلى الانفصال عن العمل أو المهام، والشعور بانعدام التقدير أو الجدوى.

• انخفاض الكفاءة المهنية: الشعور بعدم القدرة على الإنجاز أو النجاح في أداء الواجبات.

الأسباب والعوامل المؤدية

• ضغط عمل مفرط وغير متوازن.

• غياب التقدير والدعم المهني.

• شعور دائم بعدم السيطرة على المهام أو الوقت.

• غياب التوازن بين الحياة المهنية والشخصية.

جدول مقارنة بين الاحتراق الذاتي والاكتئاب

ثالثاً: التشابهات الخادعة بين الحالتين

من أكثر التحديات التي تواجه المتخصصين في الصحة النفسية هي صعوبة التمييز بين الاكتئاب والاحتراق الذاتي في المراحل المبكرة. فكلاهما يترافق مع أعراض مثل الإرهاق، فقدان الشغف، والتراجع في الأداء.

ولكن يجب التنبه إلى أن الاكتئاب غالباً ما يُظهر أعراضاً تمتد إلى الجوانب الشخصية والحميمية للحياة، فيما تتركز أعراض الاحتراق الذاتي غالباً ضمن النطاق الوظيفي أو المهني.

كما أن الشخص الذي يعاني من الاحتراق الذاتي قد يستعيد نشاطه وتوازنه بعد إجازة قصيرة أو تغيير مهني، أما من يعاني من الاكتئاب، فقد يبقى في حالته حتى مع الابتعاد التام عن مصدر الضغط.

رابعاً: الأثر النفسي والجسدي لكل حالة

الأثر النفسي للاكتئاب

الاكتئاب قد يؤدي إلى اضطرابات معرفية مثل ضعف التركيز، صعوبة اتخاذ القرار، ونقص في التفكير الإيجابي، كما يصاحب الحالة اضطراب عاطفي يشمل القلق، الإحساس بالذنب، وعدم القيمة، وأحياناً العجز عن الشعور بالمشاعر.

الأثر الجسدي للاكتئاب

تشمل الأعراض الجسدية تغيرات في الوزن، الإرهاق المزمن، اضطرابات النوم، مشاكل في الجهاز الهضمي، انخفاض الرغبة الجنسية، وآلام جسدية لا تفسير طبي واضح لها.

الأثر النفسي للاحتراق الذاتي

الاحتراق الذاتي يؤدي إلى انفصال عاطفي عن المهنة أو المهام، وفقدان الحافز، وازدياد في مشاعر السخرية أو التبلد أو اللامبالاة. الشخص يشعر أنه “منفصل” عن ذاته الإنتاجية، وأحياناً عن زملائه أو محيطه المهني.

الأثر الجسدي للاحتراق الذاتي

غالباً ما يتجلى الاحتراق الذاتي في اضطرابات النوم، صداع، توتر عضلي، تكرار الأمراض الناتجة عن ضعف المناعة مثل نزلات البرد، واضطرابات في الشهية.

خامساً: العوامل الاجتماعية والثقافية التي تساهم في التضليل بين الحالتين

العديد من الأشخاص في بيئات العمل ذات الثقافة الإنتاجية المفرطة، مثل مجالات التكنولوجيا أو الطب أو التعليم، يُظهرون أعراضاً تشبه الاكتئاب دون إدراكهم أنهم يعيشون حالة احتراق ذاتي. وهذا يعود لعدة أسباب:

• الوصمة الاجتماعية للاكتئاب تدفع البعض إلى “تسمية” ما يعانونه بأنه مجرد إرهاق مؤقت.

• الطبيعة التنافسية للمهن التي تُمجد العمل المستمر وتقلل من أهمية الراحة.

• نقص الوعي النفسي المجتمعي الذي يخلط بين الشعور بالتعب العادي والحالات النفسية المزمنة.

سادساً: طرق التشخيص والتقييم المهني

في العيادات النفسية المتخصصة، يتم استخدام مقاييس محددة لتقييم كل من الحالتين. من أبرز الأدوات المستخدمة:

• مقياس Beck للاكتئاب (BDI): لتحديد شدة الاكتئاب.

• اختبار Maslach للاحتراق المهني (MBI): ويقيس ثلاثة محاور رئيسية: الإرهاق، التبلد، وتراجع الكفاءة.

ويُراعى في عملية التشخيص معرفة التاريخ المرضي، نوع الضغوط، مدة الأعراض، وبيئة العمل أو المعيشة، كما تُؤخذ العوامل البيولوجية بعين الاعتبار مثل فحوصات الهرمونات ووظائف الغدة الدرقية.

سابعاً: طرق العلاج والتدخل لكل حالة

علاج الاكتئاب

1. العلاج الدوائي: مثل مثبطات امتصاص السيروتونين (SSRIs) أو مضادات الاكتئاب الثلاثية.

2. العلاج النفسي: مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، أو العلاج بالتحليل النفسي.

3. العلاج السلوكي: يشمل تعديل نمط الحياة، تنظيم النوم، النشاط البدني، والدعم الاجتماعي.

4. العلاج الكهربائي: يُستخدم في الحالات الشديدة المقاومة للعلاج.

علاج الاحتراق الذاتي

1. التدخل المهني: مثل تخفيف عبء العمل، إعادة توزيع المهام، الدعم الإداري.

2. التوازن بين العمل والحياة: تعزيز العادات الصحية، وضع حدود واضحة بين الحياة المهنية والشخصية.

3. الاستشارات النفسية: لمساعدة الفرد على إعادة تقييم أهدافه وتطوير استراتيجيات إدارة الضغوط.

4. التعافي الذاتي: يشمل فترات راحة، رحلات قصيرة، استعادة الروابط الاجتماعية.

ثامناً: أهمية التوعية والوقاية

تعتمد الوقاية من الاكتئاب والاحتراق الذاتي على رفع مستوى الوعي المجتمعي حول أهمية الصحة النفسية. المؤسسات التعليمية والمهنية يجب أن تتبنى سياسات واضحة لدعم العاملين والطلاب على السواء. ومن التدابير الفعالة:

• إدراج حصص توعوية بالصحة النفسية في المناهج الدراسية.

• دعم الموظفين بإجازات مرنة.

• توفير جلسات إرشاد نفسي دورية.

• تدريب المدراء والمشرفين على اكتشاف علامات الإجهاد النفسي مبكراً.

تاسعاً: الختام والتحذير من التأخير في العلاج

كل يوم يُهدر دون تشخيص دقيق هو عبء إضافي على النفس والجسد. إن الخلط بين الاحتراق الذاتي والاكتئاب قد يؤدي إلى تدهور الحالة بشكل خطير، خاصة إذا تُرك الاكتئاب دون علاج مناسب. من الضروري أن يتوفر التشخيص المبكر والتدخل العلاجي المناسب تحت إشراف مختصين مؤهلين.

المراجع:

1. Maslach, C., & Leiter, M. P. (2016). Burnout: A Multidimensional Perspective. Taylor & Francis.

2. American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (5th ed.).