سلوك الغيرة عند الأطفال: الأسباب، الأنواع، التأثيرات وطرق التعامل

تُعد الغيرة من المشاعر الطبيعية التي ترافق النمو النفسي والاجتماعي للطفل، وهي تظهر في مختلف مراحل الطفولة، وإنْ كانت تتجلى بوضوح في مرحلة الطفولة المبكرة. يُنظر إلى الغيرة بوصفها سلوكًا انفعاليًا قد يحمل بين طياته بعض الإيجابيات، غير أنها تتحول إلى معضلة نفسية وسلوكية حينما تزداد حدّتها وتُصبح دائمة أو تُعبّر عن نفسها بطريقة سلبية تؤثر على علاقة الطفل بالآخرين أو على تطوره العاطفي والاجتماعي. تختلف الغيرة بين الأطفال في شكلها وحدّتها ومدتها، تبعًا لمجموعة من العوامل البيئية والنفسية والوراثية.

في هذا المقال، سيتم تناول موضوع “سلوك الغيرة عند الأطفال” بشكل مفصل وشامل، انطلاقًا من تعريف الغيرة، مرورًا بأسبابها، أشكالها، آثارها النفسية والسلوكية، وصولاً إلى أبرز الأساليب العلمية والتربوية في التعامل مع هذه الظاهرة.

تعريف الغيرة عند الأطفال

الغيرة هي شعور داخلي ناتج عن إدراك الطفل أن شخصًا آخر – غالبًا ما يكون أخًا أو زميلًا – يتمتع بما يرغب هو فيه، سواء أكان حبًا واهتمامًا أو شيئًا ماديًا كالألعاب أو الملابس. وتنبع الغيرة في الأساس من مقارنة الطفل لنفسه بالآخرين، مع الشعور بالنقص أو التهديد لفقدان مكانته عند أحد الوالدين أو في محيطه الاجتماعي.

وتُعد الغيرة شعورًا مركبًا، إذ تتداخل فيه مجموعة من الانفعالات مثل الغضب، الخوف، الحزن، والقلق، وقد يصاحبها سلوك عدواني، انسحابي، أو حتى تمارض بغرض جذب الانتباه.

أسباب الغيرة عند الأطفال

تتعدد أسباب الغيرة، ويمكن تقسيمها إلى أسباب بيئية، تربوية، نفسية واجتماعية، نعرضها فيما يلي:

1. التفرقة في المعاملة بين الأبناء

يُعد التحيز لطفل على حساب الآخر داخل الأسرة من أكثر الأسباب المباشرة التي تثير غيرة الطفل. عندما يلاحظ الطفل أن شقيقه يحظى بمعاملة مميزة، أو يُكافأ على أشياء لا يُكافأ هو عليها، يبدأ بالشعور بالظلم والنقص، ما يخلق حالة من الحسد والانفعال السلبي.

2. ولادة طفل جديد

تُعد ولادة أخ أو أخت جديدة أحد أبرز المواقف التي تُثير غيرة الطفل، خصوصًا الطفل البكر. فبعد أن كان مركز الاهتمام، يُفاجأ بطفل آخر يستحوذ على رعاية الوالدين وانتباه الأسرة، ما يجعله يشعر بالإقصاء أو التهديد.

3. المقارنة المستمرة بالآخرين

يقع بعض الآباء في خطأ مقارنة أطفالهم بأطفال آخرين، سواء من الأقارب أو الزملاء، بهدف التحفيز، لكن هذه المقارنة تُحدث تأثيرًا عكسيًا، إذ تولّد في الطفل شعورًا بالدونية والعجز، مما يؤدي إلى غيرة دفينة قد تتطور إلى كرهٍ أو نفور اجتماعي.

4. نقص الثقة بالنفس

الطفل الذي يعاني من ضعف في تقدير الذات أو يفتقر إلى الدعم النفسي والتشجيع من الأهل، يكون أكثر عرضة للغيرة، خاصة عندما يرى غيره يحقق النجاح أو يحظى بالمديح.

5. القصور في تلبية الحاجات العاطفية

حين لا يتلقى الطفل ما يكفي من الحنان والحب والاحتواء من قبل والديه أو القائمين على رعايته، يسعى لتعويض هذا النقص عبر سلوكيات غيورة وعدوانية.

6. التنافس الدراسي أو الاجتماعي

قد يشعر الطفل بالغيرة من زملائه المتفوقين دراسيًا أو الذين يحظون بشعبية أكبر في البيئة المدرسية، لا سيما في حال وجود شعور بعدم الكفاءة أو انخفاض التحصيل الأكاديمي لديه.

أشكال الغيرة عند الأطفال

تتجلى الغيرة عند الأطفال بعدة صور تختلف في شدتها ونوعها، ومن أبرز هذه الأشكال:

1. الغيرة السلوكية

يُعبّر الطفل عن غيرته من خلال سلوكيات واضحة مثل الاعتداء الجسدي على الآخر، كدفعه أو ضربه، أو تكسير ممتلكاته، أو تقليده بطريقة ساخرة.

2. الغيرة اللفظية

يستخدم الطفل كلمات جارحة أو انتقادات أو نكات ضد من يغار منه، وقد يتعمد التقليل من شأنه أو نشر إشاعات بين الأقران.

3. الغيرة الانسحابية

بدلاً من السلوك العدواني، قد يُظهر الطفل الغيرة عبر الانطواء والعزلة، ورفض المشاركة في الأنشطة الاجتماعية أو التفاعل مع الآخرين.

4. الغيرة التمثيلية

يحاكي الطفل سلوكيات الأطفال الأصغر سنًا كنوع من محاولة استعادة الانتباه، مثل التبول اللاإرادي، التلعثم، أو التظاهر بالمرض.

5. الغيرة المزمنة

تتطور في بعض الحالات إلى حالة مزمنة تتصف بالعدوان الدائم، سوء التقدير للذات، العناد، الكذب، أو حتى اضطرابات نفسية كالاكتئاب أو القلق الاجتماعي.

تأثير الغيرة على الطفل والمجتمع

تؤثر الغيرة في مسار الطفل النفسي والاجتماعي بشكل كبير، وتنعكس سلبًا على سلوكياته ومهاراته الحياتية، ويمكن تلخيص هذه التأثيرات في النقاط التالية:

1. التأثير النفسي

تؤدي الغيرة المستمرة إلى ظهور مشاعر الحزن والقلق، وتدني احترام الذات، وقد تتطور إلى اضطرابات انفعالية مثل الاكتئاب أو اضطرابات النوم.

2. التأثير السلوكي

يُظهر الطفل سلوكيات سلبية مثل العناد، الكذب، العدوان، التمرد على السلطة، الفوضى، ورفض المشاركة في الأنشطة التربوية.

3. التأثير التعليمي

قد تتسبب الغيرة في تراجع التحصيل الدراسي، بسبب فقدان الحافز أو الانشغال بالمنافسة غير الصحية.

4. التأثير الاجتماعي

يؤدي السلوك الغيور إلى تدهور العلاقات مع الآخرين، سواء داخل الأسرة أو في البيئة المدرسية، وقد يجعل الطفل مرفوضًا اجتماعيًا أو غير محبوب بين أقرانه.

الفرق بين الغيرة الطبيعية والغيرة المرضية

طرق التعامل مع الغيرة عند الأطفال

يتطلب التعامل مع الغيرة إدراكًا عميقًا من الوالدين والمربين لطبيعة الطفل النفسية، ويشمل هذا التعامل بُعدين أساسيين: الوقاية والعلاج. ويمكن تلخيص أبرز الأساليب التربوية والعلمية فيما يلي:

1. تحقيق العدل في المعاملة

من الضروري أن يشعر كل طفل داخل الأسرة بأنه محبوب ومقدر، دون تمييز أو مقارنة، حتى وإن اختلفت الحاجات والظروف.

2. تعزيز الثقة بالنفس

ينبغي للوالدين دعم الطفل نفسيًا وتشجيعه على تحقيق النجاح في مجالات تناسب قدراته، مع التركيز على الإيجابيات والنجاحات، ولو كانت بسيطة.

3. تعليم القيم الأخلاقية

من المهم تنشئة الطفل على قيم مثل الرضا، التعاون، المحبة، احترام الآخر، وتقدير ما يمتلك دون النظر لما عند الغير.

4. تجنب المقارنة

ينبغي الابتعاد عن أي نوع من المقارنات بين الإخوة أو الزملاء، لأنها تُحدث شرخًا نفسيًا في بنية الطفل وتغذي الغيرة السلبية.

5. احتواء مشاعر الطفل

من المهم الإصغاء إلى الطفل عند ظهور مشاعر الغيرة، وتفهم ما يشعر به، بدلًا من لومه أو تجاهل انفعالاته.

6. تخصيص وقت نوعي لكل طفل

خاصة في حالة وجود أكثر من طفل في الأسرة، يُفضل تخصيص وقت خاص لكل طفل لممارسة نشاط يحبه مع أحد الوالدين، مما يعزز شعوره بالأهمية والانتماء.

7. تشجيع العمل الجماعي

إشراك الطفل في أنشطة جماعية تعاونية مع إخوته أو زملائه يساعد على تنمية روح التعاون والتسامح، ويقلل من حدة التنافس السلبي.

8. الاستعانة بالمتخصصين

في حال استمرت سلوكيات الغيرة السلبية لفترة طويلة، أو أثرت على أداء الطفل في المدرسة أو حياته اليومية، يُفضل استشارة اختصاصي نفسي.

دور المدرسة في مواجهة الغيرة

تلعب المدرسة دورًا محوريًا في الحد من الغيرة بين الأطفال من خلال:

• تشجيع التعاون بدل التنافس.

• تجنب التمييز بين التلاميذ.

• خلق بيئة صفية آمنة ومُحفّزة.

• تدريب المعلمين على اكتشاف سلوك الغيرة المبكر.

• تنظيم أنشطة جماعية تعزز الروح الجماعية والانتماء.

خاتمة

سلوك الغيرة عند الأطفال هو أحد المظاهر النفسية الطبيعية، لكنه يتحول إلى اضطراب عندما يُترك دون وعي تربوي أو احتواء عاطفي. تتطلب مواجهته فهمًا عميقًا لطبيعة الطفل، وأسسًا واضحة في المعاملة تقوم على العدل، والحب، والدعم النفسي. إن تعزيز التوازن العاطفي في بيئة الطفل، سواء في المنزل أو في المدرسة، يمثل حجر الزاوية في تقليل الآثار السلبية للغيرة، وتحويلها إلى دافع للنمو السليم والتطور الإيجابي.

المراجع:

1. النابلسي، عبد الكريم. علم نفس الطفل والمراهق. دار الفكر، دمشق، 2015.

2. Piaget, Jean. The Psychology of the Child. Basic Books, 1969.