الغيبة أشد من الزنا: دراسة

صحة حديث “الغيبة أشد من الزنا”: دراسة تحليلية تفصيلية في ضوء السنة النبوية وأقوال العلماء

تعد الغيبة من الظواهر السلوكية المذمومة التي انتشرت في المجتمعات الإسلامية منذ العصور الأولى، وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بتحذير المسلمين منها نظرًا لما تتركه من آثار سلبية على الفرد والمجتمع. وفي هذا السياق وردت أحاديث نبوية عديدة تنهى عن الغيبة وتحذر منها، وكان من أبرزها الحديث الذي اشتهر بين الناس بلفظ: “الغيبة أشد من الزنا”. انتشر هذا الحديث بشكل واسع، وأصبح يُستشهد به في مجالس الوعظ والخطابة، إلا أن السؤال المهم الذي تطرحه الأوساط العلمية هو: ما مدى صحة هذا الحديث؟ وهل ثبت عن النبي محمد ﷺ بهذا اللفظ والمعنى؟ هذا المقال يتناول دراسة علمية موسعة لصحة هذا الحديث من حيث السند والمتن، ويعرض أقوال المحدثين والفقهاء، ويقارن بين مفهوم الغيبة والزنا في ضوء النصوص الشرعية.

تعريف الغيبة والزنا في الشريعة الإسلامية

الغيبة:

ورد تعريف الغيبة في الحديث النبوي الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:

“أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته.”

الغيبة إذًا هي ذكر المسلم لأخيه بما يكرهه، سواء أكان ذلك في غيبته أو في محضر غيره، وهي من كبائر الذنوب كما أجمع العلماء.

الزنا:

أما الزنا فهو من أكبر الكبائر في الإسلام، ويُقصد به الاتصال الجنسي غير المشروع بين رجل وامرأة دون عقد نكاح شرعي. وقد حرمه الله تعالى في نصوص قطعية من القرآن الكريم والسنة النبوية، ورتب عليه عقوبات شديدة في الدنيا والآخرة، منها الجلد أو الرجم في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة.

متن الحديث ودراسة السند

الحديث المشتهر بين الناس بلفظ “الغيبة أشد من الزنا” ورد بعدة صيغ في كتب الحديث، وأقرب ما ورد في هذا المعنى ما رواه الإمام البيهقي في “شعب الإيمان”، والطبراني في “المعجم الكبير”، والخرائطي في “مكارم الأخلاق”، وفيه:

“الغيبة أشد من الزنا، قيل: وكيف؟ قال: إن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يُغفر له حتى يغفر له صاحبه.”

غير أن هذا الحديث لم يرد في أي من كتب الصحاح (صحيح البخاري أو مسلم) ولا في سنن أبي داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجه بسند صحيح، وإنما ورد في كتب السنن والمسانيد بأسانيد فيها ضعف، وقد اختلف العلماء في تصحيحها.

أقوال أهل العلم في صحة الحديث

1. الإمام الذهبي:

في كتابه “ميزان الاعتدال”، أشار إلى ضعف بعض رواة هذا الحديث، وخاصة من تفردوا بنقله، وبيّن أن فيه إرسالاً أو ضعفًا في السند. لكنه لم يحكم عليه مباشرةً بالوضع، ما يجعله في دائرة الحديث الضعيف وليس المكذوب.

2. الإمام السخاوي:

في “المقاصد الحسنة”، أورد الحديث وقال: “ورد من طرق فيها ضعف، لكنه بمعناه صحيح”. بمعنى أن السند لا يصح بمفرده، ولكن المعنى الذي يشير إليه الحديث له ما يؤيده من أصول الشريعة.

3. الإمام المناوي:

في “فيض القدير”، قال عن الحديث: “حديث غريب ضعيف”، لكنه أشار إلى أن الغيبة من الكبائر بلا شك، وضررها متعدٍ إلى الآخرين، بينما الزنا قد يكون ضرره قاصرًا على الفاعلين في بعض الحالات، ما يعطي تأويلاً للحديث وإن كان ضعيفًا سندًا.

4. العلامة الألباني:

صنّف الحديث ضمن “الضعيفة” في موسوعته الشهيرة “سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة”، وبيّن أن ضعف الإسناد لا يرقى إلى درجة الوضع، إلا أنه لا يُحتج به في الأحكام.

مقارنة بين الغيبة والزنا: أوجه المفاضلة في الشريعة

قد يُدهش القارئ من هذا التفضيل الظاهري الذي يفهم من الحديث بين الغيبة والزنا، خاصة وأن الزنا من كبائر الذنوب التي رتب الله عليها حدًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة. لكن من خلال التدقيق في المعنى المقصود، يظهر أن المقارنة لا تتعلق بحجم الإثم من جهة الشريعة فحسب، بل بأثر الذنب وطرق التوبة منه.

يتبين من الجدول أن الغيبة تتعلق بحقوق العباد، وهي أشد خطرًا من بعض جوانب الزنا لأن الذنب فيها لا يُغفر بمجرد التوبة، بل لا بد من استحلال المغتاب أو أن يعفو عنه.

دعم المعنى من نصوص أخرى

رغم ضعف سند الحديث، فإن معناه مستند إلى أصول شرعية، أبرزها:

1. قوله تعالى:

   “ولا يغتب بعضكم بعضًا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه”
   
   تصوير بليغ يبيّن بشاعة الغيبة حتى إنها تشبه أكل لحم الميت.

2. حديث صحيح عن النبي ﷺ:

   “من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله اليوم، من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فطُرحت عليه” (رواه البخاري)

الموازنة الفقهية: الغيبة والزنا ضمن التصنيف الفقهي للكبائر

الفقهاء صنفوا الكبائر بحسب خطورتها إلى درجات، فاعتبروا الشرك بالله في أعلى مرتبة، تليه الكبائر المتعلقة بحقوق الله (كالزنا وشرب الخمر)، ثم الكبائر المتعلقة بحقوق العباد (كالغيبة والنميمة والسرقة).

لكن الملاحظ في الفقه الإسلامي أن الذنوب المتعلقة بحقوق العباد قد تكون أعظم في بعض الأحوال لأن الله قد يعفو عن حقوقه، أما حقوق الناس فلا تغفر إلا بردّها أو استحلالها.

أبعاد اجتماعية ونفسية للغيبة

الغيبة ليست فقط معصية شخصية، بل هي سلوك مدمر للعلاقات الاجتماعية، وتؤدي إلى:

• نشر الفتنة بين الأفراد.

• تهديد وحدة المجتمع الإسلامي.

• إثارة الأحقاد والضغائن.

• انعدام الثقة والأمان في العلاقات.

بينما الزنا – رغم فداحته – لا يسبب في الغالب هذا الكم من الانهيارات المجتمعية إلا إذا أصبح ظاهرة علنية.

خلاصة علمية: حكم الحديث من حيث القبول

بعد عرض الأسانيد ومواقف العلماء، يمكن تلخيص الحكم على حديث “الغيبة أشد من الزنا” كما يلي:

• السند: ضعيف لا يرقى لدرجة الصحيح.

• المتن: معناه صحيح وموافق لأصول الشريعة.

• العمل به: لا يُحتج به كحكم شرعي مستقل، لكن يجوز الاستئناس به في مقام الوعظ والتذكير، مع التنبيه على ضعفه.

توصية ختامية

الغيبة جريمة أخلاقية حقيقية، تدمّر العلاقات وتزرع الكراهية، وهي من كبائر الذنوب التي تستوجب التوبة الصادقة، والاستغفار، وطلب المسامحة من المتضررين. أما حديث “الغيبة أشد من الزنا”، فرغم ضعفه سندًا، إلا أنه يحمل رسالة توعوية عظيمة مفادها أن الذنوب التي تمس حقوق الآخرين لا يغفرها الله إلا برضا أصحابها.

المراجع:

1. البيهقي، شعب الإيمان.

2. السخاوي، المقاصد الحسنة.