الغضب مرض نفسي معقد

الغضب.. مرض لا يفهمه أحد

الغضب، ذلك الانفعال العاصف الذي يستولي على كيان الإنسان في لحظات معينة، لطالما اعتُبر من أكثر المشاعر الإنسانية تعقيدًا وتشابكًا. يمرّ كل فرد في حياته بلحظات غضب، لكنها تتفاوت في شدّتها وتكرارها وتبعاتها من شخص إلى آخر. الغضب ليس مجرد انفعال عابر، بل هو تجربة داخلية قد تتفجر في شكل لفظي أو جسدي أو حتى صمت داخلي خانق. ومع تعقيده وتنوع أبعاده النفسية والفيزيولوجية والاجتماعية، يبقى الغضب من أكثر الانفعالات التي لا تُفهم بشكل عميق، ولا تُعالج بشكل علمي في معظم المجتمعات، ما يجعله بمثابة “مرض لا يفهمه أحد”.

الغضب بين الفطرة والاضطراب

ينتمي الغضب إلى مجموعة الانفعالات الفطرية التي تُولد مع الإنسان، إلى جانب الفرح، والحزن، والخوف. وقد يكون الغضب، في حالته الطبيعية، استجابة دفاعية تساعد الكائن الحي على حماية ذاته من التهديدات الخارجية. في هذا الإطار، يعتبر الغضب آلية بقاء، تحفّز الجسد والعقل على التعامل مع مصادر التهديد. ولكن، حين يتجاوز هذا الغضب حدوده الفطرية ويتحوّل إلى نمط دائم من السلوك أو إلى وسيلة للتعبير عن الضعف والقلق والإحباط، فإنه لا يعود انفعالًا عابرًا، بل يتحول إلى مرض نفسي واجتماعي ينهك الفرد ومن حوله.

الأسباب النفسية الكامنة وراء الغضب

يرتبط الغضب بعدد كبير من العوامل النفسية التي تتراكم على مر الزمن، وتتحول إلى بذور قابلة للانفجار عند أول محفز خارجي. ومن أبرز هذه الأسباب:

• الإحباط المستمر: حيث يؤدي تكرار الفشل أو الشعور بالعجز عن تحقيق الأهداف إلى تراكم طاقة سلبية تُترجم في شكل نوبات غضب حادة.

• الحرمان العاطفي: الأفراد الذين نشأوا في بيئة تفتقر إلى الحنان والدعم النفسي غالبًا ما يعانون من صعوبة في ضبط مشاعرهم، ما يؤدي إلى تحوّل الغضب إلى وسيلة تعبير بديلة عن الاحتياج العاطفي المكبوت.

• القلق المزمن والاكتئاب: يرتبط القلق المفرط بمستويات مرتفعة من التوتر الداخلي الذي يسهل تحوله إلى غضب، كما أن الاكتئاب، خصوصًا عند الذكور، قد يظهر في هيئة نوبات غضب متكررة بدلاً من الحزن الصريح.

• انخفاض تقدير الذات: الشعور الداخلي بعدم الكفاءة أو عدم القيمة قد يدفع الفرد إلى ردود فعل دفاعية غاضبة عند أول انتقاد أو موقف يشعره بالنقص.

الجانب البيولوجي للغضب

من منظور علم الأعصاب، يترافق الغضب مع تغيّرات كيميائية وهرمونية معقدة. فعندما يتعرض الإنسان لمحفّز يثير غضبه، يُصدر الدماغ إشارات إلى الغدة الكظرية لإفراز هرمونات التوتر مثل الأدرينالين والكورتيزول. هذه الهرمونات تعمل على تسريع دقات القلب، وزيادة تدفق الدم إلى العضلات، ورفع ضغط الدم، وتحفيز الجهاز العصبي استعدادًا للقتال أو الهروب. ورغم أن هذا التفاعل البيولوجي مفيد في حالات الخطر الحقيقي، إلا أنه يصبح مدمرًا حين يتكرر بسبب محفزات اجتماعية ونفسية بسيطة.

الغضب وعلاقته بالأمراض العضوية

أظهرت الدراسات الحديثة وجود ارتباط وثيق بين الغضب المزمن وعدد من الأمراض الجسدية الخطيرة، من أبرزها:

• أمراض القلب: يرتبط الغضب بزيادة خطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم والنوبات القلبية، نتيجة التأثير المباشر للغضب على الجهاز القلبي الوعائي.

• مشاكل الجهاز الهضمي: يتسبب الغضب في اضطراب إفراز العصارات الهضمية وزيادة التقلصات المعوية، ما يؤدي إلى أمراض مثل القولون العصبي والقرحة.

• ضعف المناعة: الغضب المستمر يؤدي إلى إضعاف جهاز المناعة، ما يزيد من احتمالية الإصابة بالأمراض الفيروسية والبكتيرية.

• اضطرابات النوم: تتداخل مشاعر الغضب مع إفراز الميلاتونين، الهرمون المسؤول عن تنظيم النوم، مما يسبب أرقًا واضطرابات نوم مزمنة.

الغضب في المجتمعات العربية: الكبت والتعبير غير السليم

في كثير من المجتمعات العربية، لا يُنظر إلى الغضب بوصفه مشكلة يجب علاجها من الجذور، بل يُعتبر في أحيان كثيرة دليلًا على الهيبة أو رجولة أو قوة الشخصية. هذا التصور الثقافي الخاطئ يجعل الكثير من الأفراد، خصوصًا الذكور، يعتادون على إظهار الغضب كوسيلة تواصل يومية، فيما يُنظر إلى التعبير عن المشاعر الإيجابية كاللين والتسامح والهدوء على أنه ضعف أو سذاجة. بالمقابل، تُجبر النساء غالبًا على كبت غضبهن، ما يؤدي إلى تفجّره في شكل أمراض نفسية وجسدية خطيرة.

الجدول التالي يوضح الفروقات بين الغضب الصحي والغضب المرضي:

آليات تشخيص اضطرابات الغضب

يعتمد تشخيص اضطرابات الغضب على التقييم النفسي الشامل من قِبل متخصصين في الطب النفسي أو العلاج السلوكي. تتضمن أدوات التشخيص:

• المقابلات السريرية: حيث يتم التعرف على التاريخ النفسي والاجتماعي للفرد وتحليل سلوكياته أثناء نوبات الغضب.

• مقاييس تقييم الغضب: مثل مقياس “Spielberger State-Trait Anger Expression Inventory”، الذي يساعد على تحديد مدى حدة الغضب وطرق التعبير عنه.

• ملاحظة الأعراض الجسدية المصاحبة: مثل التعرّق، تسارع ضربات القلب، الرعشة، وصعوبة التنفس.

أثر الغضب على العلاقات الشخصية والاجتماعية

حين يتحوّل الغضب إلى سلوك يومي متكرر، فإنه يهدد بشكل مباشر استقرار العلاقات الإنسانية. ففي محيط الأسرة، يؤثر الغضب على التواصل بين الزوجين ويخلق بيئة سامة للأبناء. أما في بيئة العمل، فقد يؤدي إلى تدهور العلاقات المهنية، وتقويض روح الفريق، وزيادة معدلات التسرب الوظيفي. وعلى المستوى الاجتماعي العام، يسهم انتشار ثقافة الغضب في تعزيز ظواهر العنف، والتنمر، والعدوانية، وحتى الحروب الأهلية.

العلاجات المتاحة لاضطرابات الغضب

رغم أن الغضب مرض لا يفهمه الكثيرون، إلا أن العلاج متاح وفعّال إذا تم تشخيصه بشكل سليم. من بين وسائل العلاج الفعالة:

• العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يساعد على تغيير أنماط التفكير السلبي، وتعليم الفرد أساليب أكثر فاعلية في التعامل مع المواقف المحفزة للغضب.

• تقنيات التنفّس العميق والتأمل: تساهم في تهدئة الجهاز العصبي، وتقليل استجابة الجسم للضغوط النفسية.

• العلاج الدوائي: في بعض الحالات، تُستخدم أدوية مضادة للاكتئاب أو مضادة للقلق لتنظيم التوازن الكيميائي في الدماغ.

• التدريب على مهارات التواصل الإيجابي: لتفادي سوء الفهم والتفاعل العدواني مع الآخرين.

• العلاج الجماعي أو الفردي: لتفريغ المشاعر المكبوتة وتحقيق وعي أعمق بمسببات الغضب.

الغضب في الثقافة الدينية والفلسفية

تُجمع الأديان السماوية والفلسفات القديمة على خطورة الغضب غير المضبوط، وتدعو إلى التحكّم في النفس. في الإسلام، جاء في الحديث الشريف: «لا تغضب»، تكرارًا لنصيحة نبوية تختصر العلاج في جملة واحدة. أما في المسيحية، فقد حثّ العهد الجديد على المحبة والصبر كوسيلة للتغلب على الغضب. وفي الفلسفة البوذية، يُعتبر الغضب أحد “السموم الثلاثة” التي تفسد الروح وتقود الإنسان إلى التعاسة.

الخلاصة

الغضب ليس شعورًا بسيطًا يمكن تجاهله أو كبته أو الاستخفاف به. إنه مرض نفسي وسلوكي له أبعاد صحية واجتماعية خطيرة. ولأن كثيرًا من الناس يجهلون طبيعته، فإنهم يقعون في فخ إما كبحه الداخلي أو الانفجار الخارجي، وكلا الحالتين مدمر. لا بد من فهم الغضب كظاهرة إنسانية معقدة، تستحق التعامل معها بالعلم والوعي، وليس بالتجاهل أو التطبيع معها كثقافة يومية. فالفهم العميق لهذا الانفعال هو الخطوة الأولى نحو علاج مرض لا يفهمه أحد.

المراجع:

• American Psychological Association. (2023). “Anger management: Techniques and strategies.”

• Spielberger, C. D. (1999). State-Trait Anger Expression Inventory Manual. Psychological Assessment Resources.