مفهوم الغرض الشعري في الأدب العربي
الشعر العربي، بكل تنوعه وغناه، يعد من أرقى أنواع التعبير الأدبي، وهو مرآة للثقافة والتاريخ العربي عبر العصور. ومن بين المفاهيم الأساسية التي يتعين على كل دارس للشعر العربي أن يتعامل معها، يأتي “الغرض الشعري” كأحد المفاهيم الجوهرية التي تساهم في تحديد هوية الشعر وتوجهاته. الغرض الشعري ليس مجرد موضوع أو فكرة بسيطة، بل هو منبع يحدد طبيعة النص الشعري وجوهره، ويصوغ معالمه من خلال الأبعاد النفسية والجمالية واللغوية التي تميز القصائد.
تعريف الغرض الشعري
الغرض الشعري هو الهدف أو النية التي يسعى الشاعر إلى تحقيقها من خلال قصيدته، ويشمل العديد من الأغراض أو الأهداف التي يتم التعبير عنها بأسلوب شعري، حيث يُظهر الشاعر اهتماماته وانفعالاته عبر قصيدته. وتعتبر الأغراض الشعرية حجر الزاوية الذي يقوم عليه بناء القصيدة، وتختلف هذه الأغراض باختلاف المواقف والأزمان والأشخاص. في الأدب العربي الكلاسيكي، كانت الأغراض الشعرية تتحدد بشكل دقيق وتجمع بين القيم الاجتماعية، الأخلاقية، والجمالية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
تطور الغرض الشعري في الشعر العربي
تعود جذور الأغراض الشعرية إلى العصر الجاهلي، حيث كان الشعر وسيلة أساسية للتعبير عن الذات وتوثيق الوقائع التاريخية والاجتماعية. في ذلك العصر، كانت الأغراض الشعرية تتنوع بين المدح، والهجاء، والرثاء، والفخر، والغزل، وكل غرض كان يعبّر عن جزء من حياة العرب اليومية. وقد أسهمت هذه الأغراض في تحديد ملامح الشعر الجاهلي، الذي كان يركز في معظمه على البُعد الاجتماعي والمجتمعي، مما جعله معبرًا عن القيم والمفاهيم التي كانت سائدة في تلك الحقبة.
ومع تقدم الزمن، وتأثير الإسلام على الأدب العربي، تطورت الأغراض الشعرية وأخذت أشكالاً جديدة، حيث أضافت البيئة الإسلامية أبعادًا جديدة مثل الحكمة، والمديح الديني، والاعتزاز بالقيم الإسلامية. في العصر الأموي، مثلًا، أصبح المدح جزءًا من السياسة والأدب، حيث كان الشعراء يمجدون الحكام والولاة. كما تطور الغزل في هذا العصر ليأخذ أبعادًا جديدة من خلال تأثير الحياة الحضرية، بحيث بدأت تظهر تأثيرات جديدة من الرقة والشفافية في التعبير عن العواطف.
الأغراض الشعرية التقليدية
-
المدح:
يعد المدح أحد الأغراض الشعرية الأكثر شيوعًا في الشعر العربي الكلاسيكي، خاصة في العصور الأمويّة والعباسية. يعتمد المدح على الإشادة بشخصية معينة، سواء كانت ملكًا، أو قائدًا، أو أي شخص آخر كان له دور في المجتمع. يظهر المدح في القصائد من خلال الإطناب في ذكر فضائل الشخص الممدوح، مع إبراز جوانب قوته وحكمته وكرمه. كان المدح في كثير من الأحيان يحمل بعدًا سياسيًا، حيث كان الشعراء يعتمدون على المدح كوسيلة للحصول على الدعم والمكافآت من الحكام. -
الهجاء:
على النقيض من المدح، يأتي الهجاء كغرض شعري يتسم بالنقد اللاذع والقدح. كان الشعراء العرب يهجون بعضهم البعض، خاصة في حال وقوع نزاع أو صراع. يتمثل الهجاء في تحقير الشخص المقصود والتقليل من شأنه، وقد يصل إلى حد السخرية والتوبيخ. في العصر الجاهلي، كان الهجاء أداة هامة للدفاع عن الشرف والعِرض، كما كان وسيلة لإظهار التميز الاجتماعي من خلال توجيه النقد اللاذع للأعداء. -
الغزل:
يعد الغزل من أرقى وأشهر الأغراض الشعرية في الأدب العربي، ويعبر عن المشاعر العاطفية التي يكنها الشاعر تجاه محبوبته. في البداية، كان الغزل يتسم بالحنين إلى الأحباب والإشادة بالجمال. تطور هذا الغرض لاحقًا ليشمل الغزل العذري الذي يتسم بالروحانية والتعفف. وقد اشتهر العديد من الشعراء في العصر الأموي والعباسي بهذا الغرض، مثل قيس بن الملوح (مجنون ليلى)، الذي مثل الغزل العذري النموذجي. -
الرثاء:
يعد الرثاء من الأغراض الشعرية التي تتعلق بفقدان الأحبة والموت. في الأدب العربي، كان الشاعر يستخدم الرثاء كوسيلة للتعبير عن الحزن والأسى بعد فقدان شخص عزيز. كما كان يعبر عن مشاعر العزاء في وفاة القادة أو الأشخاص المهمين. تميز الرثاء العربي بعمقه وجماله، حيث كان يتم استخدام مفردات خاصة تعكس مرارة الفقد والندم على فراق الأحباء. -
الفخر:
يرتبط الفخر بالشعر العربي منذ العصر الجاهلي، حيث كان الشاعر يفاخر بأصوله وفصاحته وشجاعته. في بعض الأحيان، كان الشعراء يفاخرون بإنجازات قبائلهم أو معاركهم التي خاضوها. في العصر الأموي، كان الفخر أيضًا وسيلة لإظهار قوة الشاعر أمام الحكام. ويمثل الفخر في الشعر العربي تعزيزًا للهوية الثقافية والاجتماعية. -
الحكمة:
كانت الحكمة جزءًا لا يتجزأ من الشعر العربي، خاصة في العصور الإسلامية. استخدم الشعراء الحكمة لتوجيه الناس نحو الفضائل والأخلاق الطيبة. وقد احتوى الشعر العربي الكلاسيكي على الكثير من الأمثال والحكم التي تروي تجارب الحياة وتعبر عن المبادئ الإنسانية. هذا النوع من الشعر كان يتضمن العديد من النصائح التي تسهم في تهذيب النفس وزيادة الفهم.
الأغراض الشعرية الحديثة
مع دخول الشعر العربي في العصر الحديث، بدأ الشعراء يتجاوزون الأغراض التقليدية ليطرحوا مواضيع وأغراض جديدة تتناسب مع التحولات الاجتماعية والسياسية. كان الشعر في العصر الحديث أداة من أدوات التغيير والتعبير عن الواقع الجديد الذي يعيشه العرب في مختلف أنحاء العالم.
-
الشعر الوطني:
مع ظهور حركات التحرر الوطني في العالم العربي، أصبح الشعر أداة فعالة للتعبير عن القومية والهوية الوطنية. تركزت الأغراض الشعرية في هذا العصر حول القضايا السياسية والنضال ضد الاستعمار، حيث تحول الشعر إلى سلاح يستخدمه الشعراء لرفع الوعي الوطني والدعوة إلى التغيير. -
الشعر الاجتماعي:
شهد الشعر العربي الحديث تحولًا كبيرًا في توجهاته، حيث بدأ الشعراء يتناولون موضوعات اجتماعية مثل الفقر، والظلم، والقضايا الاجتماعية المختلفة. هذا النوع من الشعر كان يسعى لإثارة الوعي الاجتماعي وتحفيز الناس على التغيير. -
الشعر الوجداني:
في الأدب الحديث، وُجه الشعراء اهتمامًا خاصًا بالمشاعر الذاتية، خاصة في ظل الحروب والصراعات. تميز هذا النوع من الشعر بتعبيره عن الأزمات النفسية والتوترات الداخلية، حيث يعكس الشاعر فيه القلق والتشاؤم أو التفاؤل، بالإضافة إلى التأملات في الذات والوجود.
دور الغرض الشعري في التفاعل مع المتلقي
الغرض الشعري لا يقتصر فقط على التعبير عن مشاعر الشاعر وأفكاره، بل يلعب أيضًا دورًا هامًا في التأثير على المتلقي. الشعراء يستخدمون الأغراض المختلفة لجذب انتباه القارئ أو المستمع، ولإثارة مشاعره في مختلف الاتجاهات، سواء كان ذلك بالتحفيز، أو الإثارة، أو التوجيه الأخلاقي. إن الغرض الشعري هو الذي يحدد الأسلوب الفني الذي سيستخدمه الشاعر، ويؤثر بشكل مباشر على اختيار الكلمات والمفردات التي تحقن النص بالقوة التعبيرية التي تجذب القارئ.
خاتمة
إن الغرض الشعري هو الأداة التي من خلالها يعبر الشاعر عن ذاته وواقعه ومشاعره، ويعكس في الوقت نفسه العصر والبيئة التي ينتمي إليها. ومع تطور الشعر العربي عبر العصور، استمر الغرض الشعري في التغير والتكيف مع التحولات الاجتماعية والسياسية، ولكنه بقي الأساس الذي يبني عليه الشاعر قصيدته، ويحدد من خلاله معالم النص الشعري.
