العنف المنزلي أثناء فترة الوباء: أزمة صامتة تتفاقم في الظل

شهد العالم خلال جائحة كوفيد-19 أزمة صحية غير مسبوقة، تسببت في اضطرابات جذرية في كافة نواحي الحياة. فُرضت إجراءات الإغلاق والحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي للحد من انتشار الفيروس، لكن هذه التدابير، رغم ضرورتها، أسهمت في خلق بيئة خصبة لتفاقم مشكلة لطالما كانت قائمة لكنها غالبًا ما تُغفل أو تُسكت عمداً: العنف المنزلي. في ظل الجائحة، تضاعفت معاناة الضحايا الذين وجدوا أنفسهم محاصرين مع معنِّفيهم، دون ملاذ أو وسيلة آمنة للفرار أو التبليغ، مما جعل من العنف المنزلي أزمة صامتة داخل الكارثة الصحية العالمية.

المفهوم العام للعنف المنزلي

العنف المنزلي لا يقتصر على الضرب أو الإيذاء الجسدي، بل يشمل أنماطًا متعددة من الإساءة النفسية، والعاطفية، واللفظية، والاقتصادية، والجنسانية. يتجلى هذا العنف في السيطرة، والإذلال، والعزل الاجتماعي، والتهديد، والتحكم في الموارد، مما يؤدي إلى زعزعة الأمان الشخصي والنفسي للضحية. وغالبًا ما يمارس هذا العنف من قبل أحد أفراد الأسرة أو الشريك الحميم، ويؤثر على النساء والأطفال بشكل خاص، رغم أنه قد يصيب جميع الفئات بغض النظر عن الجنس أو العمر أو الطبقة الاجتماعية.

العلاقة بين الوباء وتفاقم العنف المنزلي

1. العزل الاجتماعي الإجباري

أدت سياسات العزل المنزلي إلى حبس الأشخاص في بيئة واحدة لساعات طويلة، مما أدى إلى تزايد الاحتكاك والصدامات بين أفراد الأسرة. بالنسبة للضحايا، لم يعد هناك مهرب أو وقت مستقطع من الأذى، فالمؤسسات التعليمية مغلقة، أماكن العمل أُغلقت أو انتقلت إلى المنازل، والأنشطة الاجتماعية توقفت، مما زاد من العزلة ومنح المعتدين سيطرة أكبر.

2. الضغوط النفسية والاقتصادية

أدت الأزمة الاقتصادية التي صاحبت الجائحة إلى فقدان الوظائف وتراجع الدخل، الأمر الذي أسفر عن توتر نفسي حاد داخل الأسر. في بعض الحالات، استخدم المعتدون الأزمة كذريعة لتعزيز تحكمهم، مثل تقييد الإنفاق أو مصادرة المعونات الحكومية. كما ساهم الضغط النفسي الناتج عن الخوف من المرض أو فقدان الأحبة أو القلق على المستقبل في إشعال نوبات من العنف.

3. ضعف إمكانية الوصول إلى الدعم

شهدت فترة الجائحة تعطلًا واسعًا في عمل المنظمات الاجتماعية، والملاجئ، وخطوط المساعدة، وخدمات الحماية. حتى الأنظمة القضائية تعطلت أو اقتصرت على القضايا الطارئة فقط، مما جعل من التبليغ عن العنف أو طلب التدخل الرسمي أمرًا شبه مستحيل في كثير من الأحيان. كما خشي كثيرون من الذهاب إلى مراكز الشرطة أو المستشفيات خوفًا من الإصابة بالفيروس.

4. التكنولوجيا والعنف الرقمي

أصبحت التكنولوجيا وسيلة مزدوجة خلال الجائحة؛ فمن جهة، أتاحت التواصل مع العالم الخارجي، لكنها من جهة أخرى، استُغلت لتعزيز العنف الرقمي، من خلال تتبع الضحايا، أو ابتزازهم، أو منعهم من استخدام الإنترنت أو الهواتف، أو مراقبة تواصلهم، مما زاد من حدة السيطرة والعزلة.

الفئات الأكثر تضررًا من العنف المنزلي خلال الجائحة

النساء

وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن نسبة العنف المنزلي ضد النساء ارتفعت خلال الجائحة بنسبة تتراوح بين 30% إلى 50% في بعض البلدان. النساء اللواتي يعشن في بيئات تحكمها ثقافة أبوية صارمة، أو يفتقرن إلى الاستقلال الاقتصادي، كنّ أكثر عرضة للبقاء مع معنفيهن دون خيار بديل.

الأطفال

تأثرت فئة الأطفال بشكل مأساوي بالعنف المنزلي خلال الجائحة. فالمدارس كانت تمثل ملاذًا نفسيًا وأمنيًا لكثير منهم، كما أن المعلمين كانوا في كثير من الأحيان أول من يكتشف علامات الإيذاء. ومع إغلاق المدارس، فقد الأطفال هذا الخط الدفاعي الأساسي، مما أدى إلى تفاقم معدلات العنف ضدهم، سواء بالضرب أو الإهمال أو الاعتداء الجنسي.

كبار السن وذوو الإعاقة

عانى كبار السن وذوو الاحتياجات الخاصة من العنف المنزلي خلال الجائحة، خاصة أولئك الذين يعتمدون على أفراد الأسرة في الرعاية اليومية. في بعض الحالات، تعرضوا للإهمال المتعمد أو الاعتداء النفسي أو المادي، دون القدرة على طلب المساعدة.

إحصائيات ودراسات حول تفاقم العنف المنزلي أثناء الوباء

أظهرت تقارير صادرة عن منظمة الصحة العالمية وهيئات الأمم المتحدة ارتفاعًا ملحوظًا في البلاغات المتعلقة بالعنف المنزلي منذ بداية الجائحة. على سبيل المثال:

هذه الأرقام ليست سوى جزء من الواقع، إذ أن كثيرًا من الحالات لم يُبلغ عنها بسبب الخوف أو صعوبة الوصول إلى قنوات الدعم.

انعكاسات العنف المنزلي على الصحة النفسية والمجتمع

الآثار النفسية والجسدية على الضحايا

تعرض الضحايا لعنف منزلي مستمر يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، القلق، اضطراب ما بعد الصدمة، وحتى التفكير أو محاولة الانتحار. كما يترك آثارًا جسدية مزمنة مثل الكسور، الحروق، وفقدان الحمل لدى النساء الحوامل. في المدى البعيد، ينعكس هذا الضرر على الأداء المهني والاجتماعي للضحية، ويؤثر على علاقاتها المستقبلية وثقتها بالنفس.

تأثيره على الأطفال

الأطفال الذين يشهدون العنف المنزلي أو يتعرضون له مباشرة يتأثرون نفسيًا بشكل عميق، مما يؤدي إلى ضعف في التحصيل الدراسي، سلوك عدواني أو انطوائي، واضطرابات في النوم أو الأكل. وقد تستمر هذه الآثار إلى مرحلة البلوغ، مسببة مشكلات في العلاقات، وزيادة احتمالية تكرار دورة العنف، إما كضحايا أو كمعنِّفين.

الانعكاسات الاجتماعية

يسهم تفشي العنف المنزلي في تفكك الأسرة، وزيادة الأعباء على نظم الرعاية الاجتماعية، والخسائر الاقتصادية الناجمة عن انخفاض الإنتاجية وارتفاع تكلفة الرعاية الصحية والدعم القانوني. كما يُعدّ تهديدًا خطيرًا للصحة العامة، خاصة عندما يترافق مع أزمات طارئة كالوباء.

استجابات المؤسسات والمنظمات الدولية

قامت بعض الحكومات والمنظمات الدولية بتعزيز إجراءات الحماية، رغم التحديات، من خلال:

• إطلاق خطوط ساخنة إضافية للتبليغ عن العنف وتوفير الدعم النفسي.

• استخدام الصيدليات والمتاجر الكبرى كمراكز مؤقتة للإبلاغ من خلال رموز سرية.

• إتاحة ملاجئ جديدة وزيادة التمويل للمنظمات التي تعنى بحماية الضحايا.

• تقديم الدعم عبر الإنترنت مثل الاستشارات النفسية والقانونية.

• إدماج قضية العنف المنزلي ضمن خطط الاستجابة للجائحة كقضية ذات أولوية قصوى.

لكن رغم هذه المبادرات، لا تزال هناك حاجة ملحة لتطوير استراتيجيات طويلة الأمد، تدمج بين الوقاية، والاستجابة، وإعادة التأهيل، بما يضمن عدالة شاملة للضحايا.

الدور الوقائي للمجتمع والإعلام

يؤدي الإعلام دورًا بالغ الأهمية في تسليط الضوء على العنف المنزلي وتغيير الصورة النمطية حوله، حيث يمكن أن:

• ينشر الوعي حول أشكال العنف وآثاره.

• يقدم معلومات حول سبل المساعدة.

• يشجع على كسر الصمت ومناصرة الضحايا.

• يضغط على الحكومات لوضع تشريعات صارمة لحماية الأفراد.

أما على صعيد المجتمع، فالتربية الواعية القائمة على احترام الآخر، والمساواة، وحل النزاعات دون عنف، تُعدّ حجر الأساس للوقاية من العنف المنزلي.

خاتمة

أظهرت جائحة كوفيد-19 أن العنف المنزلي ليس ظاهرة هامشية بل أزمة مترسخة تُهدد الصحة النفسية والجسدية للمجتمعات، خاصة في الأوقات التي يُفترض أن تكون فيها البيوت أماكن للأمان والطمأنينة. لقد سلّطت الأزمة الصحية الضوء على أوجه القصور في الحماية الاجتماعية، وعلى الحاجة لتغيير جذري في السياسات والقوانين والثقافة المجتمعية لضمان سلامة جميع الأفراد داخل منازلهم، في أوقات السلم والشدّة على حد سواء.

المراجع:

1. UN Women (2020). The Shadow Pandemic: Violence against women during COVID-19.

2. World Health Organization (2021). Violence against women prevalence estimates, 2018.