عمرك الحقيقي لا يُقاس بالأرقام.. بل بالمشاعر

في مجتمعاتنا، يُختصر العمر غالبًا في رقم يُذكر في بطاقة الهوية أو يُحتفل به سنويًا على هيئة “عيد ميلاد”. هذا الرقم الذي يُفترض به أن يُحدد مقدار ما عشناه من الزمن، بات مقياسًا سطحيًا لا يعكس بالضرورة القيمة الحقيقية لحياة الإنسان ولا كثافة تجاربه أو عمق مشاعره. فبينما يُمكن لشخصٍ أن يبلغ الستين ويشعر بداخله كطفل لم يتجاوز العاشرة، هناك من لم يتعدى العشرين ويشعر بثقل السنين كأنها مرت عليه عقود كاملة. من هنا تنبع المقولة العميقة بأن “عمرك الحقيقي لا يُقاس بالأرقام، بل بالمشاعر”.

التناقض بين الزمن البيولوجي والزمن الشعوري

منذ فجر الفلسفة، حاول الإنسان فهم الزمن. فبينما قاس العلماء الزمن بوحدات الساعات والدقائق والسنوات، أدرك الفلاسفة أن ما يهم ليس طول الزمن بل كيف نعيشه. إن الزمن البيولوجي يقيس عدد الأيام والسنوات التي مرت على الإنسان، بينما الزمن الشعوري هو ما يشعر به الإنسان تجاه حياته، ومقدار ما اختبره من تجارب شكلت وجدانه وهويته. ولذلك، قد تمر خمس سنوات على شخص دون تغير جوهري في ذاته، بينما يمر شخص آخر بتجربة واحدة فقط تُغير مجرى حياته بالكامل.

المشاعر لا تخضع للمنطق العددي، فهي تتكثف في لحظات، وتتمدد في أزمنة قصيرة أو طويلة حسب عمق التجربة. فالعاشق في لحظة فراق قد يشعر بمرور دهرٍ من الألم، بينما الطفل في لحظة سعادة قد يشعر بأن الدقيقة لا تنتهي.

الطفولة الممتدة داخل البالغين

الكثير من الناس يحتفظون بطفلٍ صغير يسكن أعماقهم رغم تقدمهم في السن. هذا الطفل يُحب اللعب، يفرح بالأشياء البسيطة، يُدهشه الغروب وتُسعده نسمة الهواء. الطفولة هنا لا تعني السذاجة، بل البراءة والقدرة على الإحساس، والاحتفاظ بنقاء داخلي لا تؤثر فيه قسوة العالم. كثير من الفنانين والكتّاب والعلماء احتفظوا بهذه الروح الطفولية، وسمحت لهم أن يبدعوا ويكتشفوا لأنهم لم يفقدوا الدهشة.

هؤلاء لا يُقاس عمرهم بما يقوله التقويم، بل بما يشعرون به. يعيشون كل لحظة بامتلاء، ويدركون أن الحياة ليست في الطول، بل في العمق.

التجربة الإنسانية بوصفها المقياس الحقيقي للعمر

إذا أردنا أن نُعيد تعريف العمر، فإنه يجب أن يرتبط بكمّ التجارب التي مررنا بها، ونوعيتها، وأثرها فينا. التجارب التي تغيّر الإنسان من الداخل، تمنحه منظورًا مختلفًا، وتُعلمه كيف يشعر ويتفاعل مع الآخرين ومع ذاته، هي التي تصنع نضجه الحقيقي. قد يمر الإنسان بسنوات طويلة دون أن يخوض تجربة شعورية واحدة حقيقية، فيبقى “شابًا” في إحساسه رغم تجاوزه سن الكهولة، بينما يمر آخر بتجربة فُقدان أو نكسة أو حب عميق تغيّره جذريًا وتدخله مرحلة “شيخوخة وجدانية” رغم صغر سنه.

الإنسان الذي يُحب، يتألم، يُحبط، يُحلق، ويعود إلى الحياة من جديد، هو من يكبر شعوريًا ويُراكم خبراته. وعلى هذا الأساس، فإن ما نُسميه “العمر” ليس إلا تراكمًا للمشاعر والتجارب والانفعالات.

العمر الإنساني كذاكرة شعورية

الذاكرة الإنسانية ليست مجرد حافظة لحوادث مرت، بل هي نسيج شعوري يتكون من لحظات الحب والخوف والنجاح والانكسار. هذه الذاكرة هي ما يُشكل “العمر الحقيقي” للإنسان. كل لحظة شعورية نعيشها تترك بصمة فينا، وتضيف طبقة جديدة إلى شخصيتنا. بعض الأشخاص لديهم حياة داخلية غنية جدًا، فيها آلاف الذكريات العاطفية والمواقف المؤثرة، مما يجعلهم ناضجين رغم حداثة سنهم. والبعض الآخر يعيش على الهامش، يُكرر نفس اليوم بنفس الشعور، فلا يضيف شيئًا إلى ذاته، فيبقى في عمر وجداني ثابت رغم مرور السنوات.

الروح والعمر النفسي

العمر النفسي أو الوجداني هو مفهوم علمي حقيقي تمت دراسته في علم النفس، ويعني المستوى الذي يشعر فيه الإنسان بالراحة أو التوتر، أو الحيوية أو التعب، بغض النظر عن عمره الزمني. قد يشعر شاب في العشرين بالإرهاق والاكتئاب والعجز، بينما يشعر رجل في الخمسين بالنشاط والرغبة في الإنجاز. الحالة النفسية تُشكل جزءًا جوهريًا من تصورنا لأنفسنا، وتُحدد كيف نعيش حياتنا.

الروح، بوصفها مستودعًا للمشاعر، تُخبرنا بعمرنا الحقيقي. الروح المُثقَلة بالندوب، أو المحملة بالأمل، أو المشعة بالنور الداخلي، هي من تُحدد إلى أين وصلنا في رحلتنا الإنسانية. لذلك، يمكن أن يكون هناك شاب بروحٍ عجوز، أو عجوز بروحٍ مراهق متجدد.

ملامح العمر في اللغة الجسدية والعاطفية

العمر الحقيقي للإنسان يظهر في لغته غير المنطوقة. في الطريقة التي ينظر بها، في انحناءة كتفه، في سرعة خطواته، وفي نبرة صوته. يظهر في نوع الموسيقى التي يُحبها، في الكتب التي يقرأها، في الأشخاص الذين ينجذب إليهم. فالمشاعر تتسرب إلى كل تفاصيل الإنسان وتكشف ما لا يُقال. رجل خمسيني يرقص بفرحٍ تلقائي في حفل، أو سيدة سبعينية تزرع الزهور وتبتسم للحياة، ليسا “عجوزين” بحسب أي مقياس شعوري.

العمر الحقيقي أيضًا ينعكس في قدرتنا على التعاطف، على الاستماع، على تقبّل الآخرين. فكلما زادت قدرتنا على الإحساس بالآخرين والتفاعل معهم بصدق، كلما كان عمرنا الوجداني أعمق وأغنى.

الجدول التالي يُبرز الفروق بين العمر الزمني والعمر الشعوري:

الحياة ليست بطولها.. بل بعمقها

عندما ننظر في أعين من مرّوا بتجارب حقيقية، نشعر بأن الزمن مرّ بهم بشكل مختلف. هؤلاء قد لا يكونوا أكبر سنًا، ولكنهم “أغنى” شعوريًا. الحياة بالنسبة لهم ليست فقط أيامًا تتوالى، بل نبضات من الإحساس، لحظات من الانكسار والانبعاث، تجارب صنعت في داخلهم إنسانًا جديدًا في كل مرة.

الحياة العميقة هي التي تُعاش بكل الحواس والمشاعر. إنها ليست عدد الوظائف التي تقلدناها، ولا عدد الأسفار، ولا حتى الإنجازات المادية، بل هي قدرة الإنسان على عيش كل تجربة بصدق وامتلاء.

العيش بالمشاعر: مقاومة للموت الروحي

في عالمٍ باتت فيه الحياة سريعة ومليئة بالضغوط، صار من السهل أن نتحول إلى “أرقام” فقط. أرقام في قاعدة بيانات، أرقام في كشوف الرواتب، أرقام في إحصائيات الصحة. لكن الإنسان الذي يعيش بمشاعره يرفض أن يكون رقمًا. هو يحيا ببطء أحيانًا، يتأمل، يبكي، يضحك، يشعر بالحياة. وهذا النوع من العيش هو ما يُبقي الروح حيّة ويُشكّل جوهر الوجود.

العمر الذي يُقاس بالمشاعر هو دعوة للاستيقاظ من سبات التكرار، ولكسر القوالب الجاهزة التي يفرضها المجتمع. إنه صرخة داخلية تقول: “أنا حيّ لأنني أشعر”. وهذه الحياة الشعورية هي ما يجعل العمر تجربة إنسانية لا تُقدّر بثمن.

المصادر

1. Frankl, Viktor E. Man’s Search for Meaning. Beacon Press, 2006.

2. Carstensen, Laura L. A Long Bright Future: An Action Plan for a Lifetime of Happiness, Health, and Financial Security. PublicAffairs, 2009.