العاشوراء: تاريخها، معانيها، وطقوسها في العالم الإسلامي
تعدّ “يوم العاشوراء” من الأيام المهمة في التقويم الهجري الإسلامي، حيث تحتل مكانة بارزة في حياة المسلمين، نظرًا لما تحمله من دلالات تاريخية ودينية. العاشوراء ليس مجرد يوم عابر في السنة، بل هو مناسبة مليئة بالأحداث التي تركت آثارًا عميقة في التاريخ الإسلامي. يمتد تأثير هذا اليوم إلى مختلف جوانب الحياة الدينية والاجتماعية، ويُحتفل به بطرق مختلفة بين المسلمين من مذاهب شتى، رغم أن محوره الرئيس يتنوع تبعًا لتفسير كل مجموعة تاريخيًا ودينيًا.
1. تاريخ العاشوراء
في البداية، يتعين الإشارة إلى أن “العاشوراء” هو اليوم العاشر من شهر محرم، الذي يعتبر أول شهور السنة الهجرية. لكن إذا كانت العاشوراء في أصلها تمثل حدثًا عامًا لم يكن محصورًا في تاريخ معين، فإن الأحداث التي ارتبطت به جعلت له معنى خاصًا عند المسلمين. قد يختلف ذلك من مذهب لآخر، ولكن بلا شك، يحمل يوم العاشوراء إرثًا تاريخيًا ودينيًا كبيرًا.
العاشوراء في عهد الجاهلية
قبل الإسلام، كان العرب في الجاهلية يحتفلون بيوم العاشوراء، وإن كانت احتفالاتهم لا تحمل نفس الدلالات الدينية التي باتت مرتبطة بهذا اليوم في عصر الإسلام. كان بعض العرب يصومون هذا اليوم، ويعتبرونه يومًا فريدًا يستحق العبادة. لكن لا توجد تفاصيل دقيقة عن الكيفية التي كانوا يتعاملون بها مع هذا اليوم، سواء من حيث الطقوس أو العادات.
العاشوراء بعد ظهور الإسلام
عندما جاء الإسلام على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان اليوم العاشر من محرم يحمل في طياته حدثًا عظيمًا ذا بعد تاريخي هام، إذ أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم صيام يوم العاشوراء، وكان الصيام في هذا اليوم يعد سنة محببة وفضيلة عظيمة، مع تأكيده على تكريمه.
أشارت الروايات إلى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم العاشوراء، ويحث المسلمين على صيامه. لكن بعد فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، أصبح صيام يوم العاشوراء تطوعيًا وليس واجبًا. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر في هذا اليوم فضلًا كبيرًا في المغفرة والرحمة.
2. العاشوراء في المذهب الشيعي: ذكرى استشهاد الإمام الحسين
يكتسب يوم العاشوراء طابعًا خاصًا لدى المسلمين الشيعة، حيث يحتفلون به بشكل مميز، ويعد يومًا مركزيًا في تقويمهم الديني. يعتبر يوم العاشوراء بالنسبة لهم ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي، حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، في معركة كربلاء في العاشر من محرم سنة 61 هـ (680م).
كانت معركة كربلاء واحدة من أعظم المعارك في تاريخ الإسلام، حيث استشهد فيها الإمام الحسين مع عدد كبير من عائلته وأصحابه. وقد كانت هذه المعركة نتيجة لخلافات سياسية ودينية عميقة حول الخلافة بعد وفاة الإمام علي بن أبي طالب. كان الحسين يرفض بيعة يزيد بن معاوية، الذي رأى فيه ظلمًا واستبدادًا، فقام بالحركة نحو الكوفة لتلبية الدعوة من أهلها.
ولكن ما لبثت قوات يزيد أن اعترضت طريقه في كربلاء، حيث وقعت المعركة الشهيرة التي انتهت بمقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه في ظروف مأساوية. ومنذ ذلك الحين، أصبح العاشر من محرم يومًا إحياء لذكرى هذا الحدث العظيم، ويسمى بـ”يوم عاشوراء”.
طقوس العزاء في العاشوراء
في هذا اليوم، يقيم الشيعة مراسم العزاء التي تشمل اللطم والنوح، ويُحتفل بالذكرى عبر تجمّعات كبيرة يتذكر فيها الناس مواقف الإمام الحسين ومقاومته للظلم. يتوجه المسلمون الشيعة في هذا اليوم إلى مجالس العزاء التي تُنظّم في المساجد والحسينيات، حيث يتلون القصائد في رثاء الإمام الحسين ويعبرون عن حزنهم وألمهم على مصيره.
يعتبر الشيعة هذا اليوم فرصة للتعبير عن المظالم التي لحقت بالإمام الحسين وأهل بيته، ويحثون في هذه المناسبة على الالتزام بالقيم التي تمثلها ثورة كربلاء مثل العدالة، والشجاعة، والصمود في وجه الظلم.
3. العاشوراء في المذهب السني
أما في المذهب السني، فاليوم العاشر من محرم يُعتبر يومًا عظيمًا ذا فضل كبير، ولكن بُعده التاريخي يختلف عن الطريقة التي يحتفل بها الشيعة. بينما يُعتبر صيام العاشوراء سنة مؤكدة في المذهب السني، فإن احتفالهم بهذا اليوم لا يتضمن نفس الطقوس العاطفية التي يقوم بها الشيعة.
يشير بعض المؤرخين إلى أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد صام يوم العاشوراء قبل أن يُفرض رمضان، وكان يحث المسلمين على صيام هذا اليوم تكفيرًا للذنوب. في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله”.
وبذلك، يركز المسلمون السنة على البُعد الروحي والعبادي لهذا اليوم، ويعتبرونه يومًا للتوبة والرجوع إلى الله، لا سيما أن صيامه يُعتقد أن فيه تكفيرًا عن الذنوب السابقة.
4. الاحتفالات والطقوس المرتبطة بيوم العاشوراء
صيام العاشوراء
يعتبر صيام العاشوراء من أبرز الطقوس التي يتبعها المسلمون في مختلف بقاع العالم. قد يختلف عدد أيام الصيام من منطقة لأخرى؛ ففي بعض الأماكن، يصوم المسلمون يوم عاشوراء فقط، بينما في أماكن أخرى، يُصام يوم تاسوعاء (التاسع من محرم) مع العاشر ليكون الصيام لمدة يومين، ويقال أن ذلك يشير إلى السنة النبوية.
المظاهر الشعبية
في بعض البلدان، يتميز اليوم بمجموعة من المظاهر الشعبية التي تتنوع من منطقة إلى أخرى. في بعض البلدان مثل العراق وإيران ولبنان، يُنظر إلى يوم العاشوراء على أنه مناسبة اجتماعية، إذ تجتمع العائلات في مجالس ومأدب طعام، كما تُنظّم المواكب الحسينية التي تتزين فيها الشوارع بالأعلام والشعارات الدينية. في بعض المناطق، تشهد العاشوراء تنظيم مواكب ضخمة تجوب المدن وتحيي ذكرى كربلاء.
الإنفاق على الفقراء
من ضمن الطقوس الأخرى المرتبطة بالعاشوراء هو الإنفاق على الفقراء والمحتاجين. وفي العديد من البلدان، تُنظم موائد الرحمن وتوزع الوجبات على المحتاجين إحياءً لهذا اليوم الكريم.
5. العاشوراء والتأثير الثقافي والاجتماعي
لقد ترك يوم العاشوراء بصمته العميقة في الثقافة الإسلامية. إذ يُعتبر هذا اليوم نقطة مفصلية في التاريخ الإسلامي تميزت بعدة تغييرات، سواء في الممارسات الدينية أو الاجتماعية. ففي ظل ما تحمله ذكرى العاشوراء من دروس في الصمود والإباء، أصبح هذا اليوم حافزًا للمسلمين لتجديد العهد مع المبادئ الإسلامية من مثل العدالة والحق والوقوف ضد الظلم.
إن الاحتفالات والتقاليد التي تصاحب يوم العاشوراء لها تأثير كبير على المجتمع المسلم، إذ يتجدد فيها الوعي الديني والتاريخي في آن واحد. في بعض الأحيان، تأخذ هذه الاحتفالات طابعًا فكريًا أيضًا، إذ يستغل العلماء والمثقفون يوم العاشوراء لنشر الوعي حول القيم الدينية والتاريخية المرتبطة به.
6. الخلاصة
إن العاشوراء تمثل يومًا من أيام الله التي يتنوع فيها الاحتفاء والتعبير، وتكتسب كل مجموعة إسلامية معنى خاصًا لهذا اليوم بناءً على تواريخهم الدينية والتاريخية. سواء كان في ذكرى صيام النبي صلى الله عليه وسلم، أو في إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء، فإن العاشوراء تبقى يومًا مشهودًا يحمل في طياته دروسًا عميقة تتعلق بالصبر على البلاء، والتمسك بالقيم الإسلامية الأصيلة، ومحاربة الظلم.
لقد ترك هذا اليوم آثارًا كبيرة في حياة المسلمين، سواء من خلال الطقوس الدينية أو عبر التأثير الثقافي والاجتماعي الذي يعكس التزام المسلمين بالمبادئ التي عاش من أجلها الإمام الحسين، وتعلموا منها أسمى القيم الإنسانية والإسلامية.
