الطعام والخرف: علاقة خفية

في العقود الأخيرة، أصبحت العلاقة بين النظام الغذائي والصحة العقلية محل تركيز متزايد من قبل الباحثين والأطباء، خاصةً في ظل تزايد أعداد المصابين بالخرف على مستوى العالم. الخرف، الذي يشمل مجموعة من الاضطرابات العصبية مثل الزهايمر، يتسبب في تدهور تدريجي في الوظائف الإدراكية والمعرفية، مما يؤدي إلى فقدان الذاكرة وتغيرات سلوكية قد تعيق الحياة اليومية. وعلى الرغم من أن العوامل الوراثية تلعب دورًا في تطور هذه الحالات، إلا أن الأبحاث تشير بشكل متزايد إلى أن النظام الغذائي هو أحد العوامل البيئية المؤثرة بقوة على ظهور الخرف وتطوره.

تشير الدراسات إلى أن هناك أنماطًا غذائية معينة قد تزيد من خطر الإصابة بالخرف، في حين أن أخرى قد تعمل على وقاية الدماغ من التدهور المرتبط بالتقدم في العمر. فالغذاء ليس مجرد مصدر للطاقة، بل يحتوي على مركبات بيولوجية نشطة تؤثر في العمليات الالتهابية، والإجهاد التأكسدي، ووظيفة الميتوكوندريا، وكلها عوامل تلعب دورًا محوريًا في صحة الدماغ.

التأثيرات البيولوجية للغذاء على الدماغ

يعتمد الدماغ بشكل كبير على الغذاء للحفاظ على بنيته ووظائفه. يتم تغذية الدماغ بالأحماض الدهنية الأساسية، والأحماض الأمينية، والفيتامينات، والمعادن، ومضادات الأكسدة، التي تتحكم في العمليات العصبية الحيوية مثل إنتاج النواقل العصبية، ونمو الخلايا العصبية، وحماية الخلايا من التلف.

وعلى سبيل المثال، فإن فيتامينات B (خصوصًا B6 وB12 والفولات) تشارك في عملية إزالة الهوموسيستين من الدم، وهو حمض أميني ثبت أن ارتفاع مستوياته يرتبط بزيادة خطر التدهور المعرفي والخرف. كذلك، فإن نقص فيتامين D يرتبط بانخفاض الأداء المعرفي وزيادة معدلات الإصابة بالخرف.

الأنظمة الغذائية المرتبطة بتقليل خطر الخرف

أشهر الأنظمة الغذائية التي أثبتت فعاليتها في تقليل خطر الخرف هي:

1. النظام المتوسطي (Mediterranean Diet)

يعد النظام المتوسطي من أكثر الأنظمة التي تمت دراستها فيما يخص صحة الدماغ. يتميز هذا النظام بالإكثار من تناول:

• الخضروات والفواكه

• الحبوب الكاملة

• البقوليات

• المكسرات

• زيت الزيتون كمصدر رئيسي للدهون

• السمك بشكل منتظم

• تقليل اللحوم الحمراء ومنتجات الألبان عالية الدسم

تشير دراسات عديدة إلى أن الالتزام بهذا النظام يرتبط بانخفاض خطر التدهور المعرفي بنسبة تصل إلى 35%. وقد ثبت أنه يقلل من الالتهاب، ويعزز من صحة الأوعية الدموية، ويحسن من توازن الميكروبيوم المعوي الذي يلعب دورًا في الاتصال العصبي.

2. نظام MIND الغذائي (Mediterranean-DASH Intervention for Neurodegenerative Delay)

هذا النظام يجمع بين النظام المتوسطي ونظام DASH (المصمم لخفض ضغط الدم)، ويهدف تحديدًا لتحسين صحة الدماغ. يركز نظام MIND على:

• تناول الخضروات الورقية الخضراء بكثرة

• التوت (خصوصًا التوت الأزرق) لمحتواه الغني بمضادات الأكسدة

• الحبوب الكاملة

• المكسرات

• الأسماك

• زيت الزيتون

تشير الأدلة إلى أن الالتزام بهذا النظام الغذائي يقلل من خطر الإصابة بمرض الزهايمر بنسبة تصل إلى 53% بين الأفراد الذين يتبعونه بصرامة.

الأطعمة المرتبطة بزيادة خطر الخرف

بالمقابل، هناك أطعمة ترتبط بزيادة خطر الإصابة بالخرف نتيجة تأثيرها على الالتهاب، وتلف الخلايا العصبية، وسوء التروية الدموية للمخ. وتشمل هذه:

1. الدهون المتحولة والمشبعة

توجد هذه الدهون في الأطعمة المصنعة مثل الكعك، البسكويت، البطاطس المقلية، والوجبات السريعة. أظهرت الدراسات أن هذه الدهون ترتبط بزيادة خطر الزهايمر لأنها ترفع من مستوى الكوليسترول الضار، وتزيد من الالتهاب وتؤدي إلى تراكم لويحات الأميلويد في الدماغ.

2. السكر المكرر والكربوهيدرات البسيطة

يرتبط الاستهلاك المفرط للسكر بزيادة خطر متلازمة الأيض، والتي تشمل السمنة، وارتفاع ضغط الدم، ومرض السكري من النوع الثاني – وجميعها عوامل خطرة لتطور الخرف. كما أن ارتفاع مستويات الجلوكوز في الدم يضعف من الاتصال العصبي ويزيد من الإجهاد التأكسدي في الدماغ.

3. اللحوم المصنعة

النقانق، اللحم المقدد، واللحم المدخن، تحتوي على نترات ومواد حافظة تزيد من الالتهاب في الجسم. هذه الأطعمة مرتبطة بتلف الخلايا العصبية وتراجع الأداء المعرفي، وفقًا لعدد من الدراسات الوبائية.

دور الميكروبيوم المعوي في العلاقة بين الغذاء والخرف

الميكروبيوم المعوي – مجموعة البكتيريا التي تعيش في الجهاز الهضمي – يلعب دورًا غير مباشر لكن مهم في صحة الدماغ. يربط الباحثون بين تنوع ووفرة أنواع معينة من البكتيريا المفيدة في الأمعاء وبين انخفاض خطر الالتهابات العصبية المرتبطة بالخرف.

الغذاء الغني بالألياف، مثل الفواكه، الخضروات، والبقوليات، يعزز من نمو هذه البكتيريا المفيدة، مما يسهم في إنتاج أحماض دهنية قصيرة السلسلة (مثل البوتيرات) التي تملك تأثيرًا مضادًا للالتهاب وتساعد في حماية الحاجز الدموي الدماغي من التلف.

الجدول التالي يوضح تأثير بعض الأطعمة الشائعة على خطر الإصابة بالخرف:

السمنة والغذاء كعامل خطر للخرف

ترتبط السمنة في منتصف العمر بزيادة خطر الإصابة بالخرف في وقت لاحق من الحياة. وتؤثر السمنة بشكل مباشر على الدماغ من خلال:

• رفع مستويات الالتهاب الجهازي

• التأثير السلبي على هرمونات مثل الإنسولين والليبتين

• تقييد تدفق الدم إلى الدماغ بسبب تصلب الشرايين

من ناحية أخرى، فإن تخفيض الوزن من خلال تحسين النمط الغذائي قد يقلل من هذه المخاطر، ويحسن من العلامات الحيوية المرتبطة بصحة الدماغ.

التغذية والوقاية المستقبلية من الخرف

لا يوجد حتى الآن علاج نهائي للخرف، مما يجعل الوقاية الاستراتيجية أمرًا بالغ الأهمية. وتُعد التغذية الصحية أحد الأعمدة الرئيسية في هذه الاستراتيجية. التغيرات الغذائية التي تبدأ في وقت مبكر من الحياة – أو حتى في منتصف العمر – قد تكون أكثر فعالية من التدخلات المتأخرة.

تشجع الهيئات الطبية على دمج العادات الغذائية المفيدة في الروتين اليومي، بما في ذلك:

• تناول خمس حصص يوميًا على الأقل من الخضار والفواكه

• استبدال الدهون المشبعة بالدهون الأحادية غير المشبعة مثل زيت الزيتون

• تقليل تناول اللحوم الحمراء والأطعمة المصنعة

• شرب كميات كافية من الماء

• تقليل استهلاك السكر والمشروبات الغازية

خاتمة علمية

في ظل تسارع التغيرات الديموغرافية وارتفاع متوسط العمر المتوقع، يصبح من الضروري فهم الدور الحاسم الذي تلعبه التغذية في الوقاية من الخرف. فالطعام ليس مجرد وسيلة للبقاء، بل هو أداة قوية في تشكيل مستقبلنا العقلي والمعرفي. إن التوجيه نحو أنظمة غذائية مدروسة، مثل النظام المتوسطي أو نظام MIND، والابتعاد عن الأطعمة المصنعة والسكريات الزائدة، يمثل خطوة مهمة في سبيل تقليل العبء العالمي المتزايد لأمراض الخرف.

المراجع العلمية

1. Morris MC, Tangney CC, et al. (2015). MIND diet associated with reduced incidence of Alzheimer’s disease. Alzheimer’s & Dementia.

2. Scarmeas N, Stern Y, et al. (2006). Mediterranean diet and risk for Alzheimer’s disease. Ann Neurol.

3. Jacka FN, Cherbuin N, et al. (2015). Western diet is associated with a smaller hippocampus: a longitudinal study. BMC Medicine.

4. Wu L, Sun D. (2017). Adherence to Mediterranean diet and risk of developing cognitive disorders: An updated systematic review and meta-analysis. Neurosci Biobehav Rev.

5. van de Rest O, Berendsen AA, et al. (2015). Dietary patterns, cognitive decline, and dementia: a systematic review. Adv Nutr.