لماذا يجب عليك التوقف عن العمل لساعات طويلة؟ وكيف تفعل ذلك؟ – الجزء (2)

إن العمل لساعات طويلة بشكل مستمر أصبح سمة بارزة في العديد من بيئات العمل الحديثة، لا سيما مع تصاعد ضغوط الأداء، وتوسع استخدام التكنولوجيا الذي جعل حدود العمل والحياة الشخصية ضبابية إلى حد بعيد. وفي الجزء الأول من هذا المقال، تم استعراض الأضرار الجسدية والنفسية التي تنتج عن العمل المفرط، إضافة إلى آثاره السلبية على العلاقات الاجتماعية والإنتاجية طويلة المدى. في هذا الجزء الثاني، سيتم التوسع في عرض الآليات العملية والفعالة للتوقف عن العمل لساعات طويلة، مع تحليل عميق للجوانب النفسية والثقافية والسلوكية المرتبطة بهذه العادة الضارة، إلى جانب تقديم استراتيجيات واقعية يمكن تبنيها لتبني نمط حياة مهني أكثر توازناً واستدامة.

تأثير ثقافة العمل المفرط على الفرد والمجتمع

تؤسس ثقافة العمل المفرط على افتراض زائف بأن زيادة عدد ساعات العمل يوازي بالضرورة زيادة في الإنتاجية. لكن الأبحاث تشير إلى أن الإنتاجية تنخفض بشكل ملحوظ بعد تجاوز الشخص لعتبة 40-45 ساعة عمل أسبوعيًا. فالعقل البشري والجسد لهما قدرة محدودة على التركيز المتواصل واتخاذ قرارات فعالة. التكرار المزمن لساعات العمل الطويلة يؤدي إلى إجهاد معرفي مستمر، ينعكس على نوعية القرارات اليومية التي يتخذها الموظف، ويُضعف من مهارات التفكير النقدي والإبداع.

المجتمعات التي تحتفي بمن يعملون لساعات طويلة تُنتج نماذج قد تبدو ناجحة على السطح، لكنها تنهار عند أول اختبار للصحة أو التوازن الأسري. وعلى المدى الطويل، تتحول هذه الثقافة إلى عبء اقتصادي ونفسي جماعي، يتجلى في ارتفاع معدلات الاكتئاب، الانهيار العصبي، الأمراض المزمنة، وانخفاض جودة الحياة العامة.

الدوافع النفسية الخفية وراء العمل المفرط

هناك مجموعة من الدوافع النفسية التي تدفع الأفراد إلى الاستمرار في العمل لساعات طويلة، حتى لو لم يكن ذلك ضرورياً:

1. الارتباط بالهوية: يربط العديد من الأشخاص قيمتهم الذاتية بإنجازاتهم المهنية، مما يجعلهم يشعرون بالذنب عند أخذ استراحة أو التوقف عن العمل.

2. الخوف من الفشل أو الطرد: في بيئات تنافسية، قد يُنظر إلى الموظف الذي لا يعمل وقتاً إضافياً على أنه أقل التزاماً.

3. الهروب من الحياة الشخصية: في بعض الأحيان، يكون العمل المهرب الوحيد من تحديات الحياة العائلية أو العاطفية.

4. التعزيز الاجتماعي: التقدير الذي يحصل عليه العامل من محيطه نتيجة عمله الشاق قد يتحول إلى إدمان نفسي يدفعه للاستمرار بنفس الوتيرة.

خطوات عملية لتقليل عدد ساعات العمل بدون التأثير على الأداء

1. إعادة هيكلة الأولويات اليومية

يجب على العامل البدء بتحليل المهام اليومية التي ينفذها، والتفرقة بين ما هو ضروري فعلاً وما يمكن تفويضه أو حذفه. يمكن استخدام مصفوفة “آيزنهاور” لتحديد الأولويات حسب درجة الأهمية والإلحاح.

2. إرساء حدود زمنية واضحة

من الضروري وضع حدود زمنية واضحة لبدء وانتهاء يوم العمل، وعدم السماح بالتسلل التدريجي للعمل إلى الوقت الشخصي. يمكن تفعيل خاصية “عدم الإزعاج” في الهاتف أو تطبيقات التواصل المهني بعد ساعات العمل، مع تعليم الزملاء على احترام هذه الحدود.

3. الاعتماد على تقنية “الوقت المحجوز”

تقنية “الوقت المحجوز” (Time Blocking) تعتمد على تخصيص فترات زمنية محددة مسبقاً للمهام المختلفة خلال اليوم، مما يمنع التداخل والتشتت، ويرفع من فعالية العمل في وقت أقل.

4. تحسين مهارات التفويض والتنظيم

التفويض ليس علامة على الضعف، بل هو مهارة إدارية حيوية. عند إسناد بعض المهام للزملاء أو الموظفين، يتم تقليل الحمل الذهني والجسدي على الفرد، ما يسمح له بالتركيز على الجوانب الاستراتيجية من عمله.

5. تبني ممارسات الرفاه المهني

من الضروري دمج فترات الراحة المنتظمة خلال اليوم، مثل المشي القصير، تمارين التمدد، أو حتى لحظات صمت للتنفس العميق، لتجديد الطاقة الذهنية. بالإضافة إلى تبني ممارسات النوم المنتظم، والتغذية الصحية، والنشاط البدني المنتظم، لتعزيز الطاقة الطبيعية والاستقرار النفسي.

آثار الامتناع عن العمل لساعات طويلة على الأداء العام

تشير دراسات أجريت في مؤسسات عالمية إلى أن تقليل عدد ساعات العمل يؤدي إلى زيادة رضا الموظفين، انخفاض معدل الغياب، وارتفاع مستوى الإبداع. فعلى سبيل المثال، تبنت شركات في السويد سياسة العمل 6 ساعات يوميًا، وحققت نتائج ملفتة في تحسين الإنتاجية وسعادة الموظفين.

وفي تجربة مشابهة، طبقت شركة “مايكروسوفت” اليابان نظام أسبوع العمل من 4 أيام، وكانت النتيجة زيادة بنسبة 40% في الإنتاجية، وانخفاض كبير في استهلاك الطاقة والمستلزمات المكتبية.

تحوّل نمط الحياة نحو التوازن: نهج استراتيجي

1. الانفصال الرقمي الواعي

يعد الانفصال عن الأجهزة الرقمية بعد انتهاء يوم العمل خطوة جوهرية لفصل الحياة المهنية عن الشخصية. يجب تخصيص وقت خالٍ تماماً من رسائل البريد الإلكتروني أو الإشعارات المهنية، والتركيز خلاله على الأنشطة الترفيهية أو التواصل الاجتماعي الواقعي.

2. تفعيل مفهوم “الحدود النفسية”

إلى جانب الحدود الزمنية، ينبغي تعزيز مفهوم “الحدود النفسية”، والذي يعني التحرر الذهني من مشكلات العمل بعد انتهاء الوقت الرسمي. يمكن تدريب العقل على هذا من خلال التأمل، أو الكتابة اليومية، أو ممارسة الامتنان في نهاية اليوم.

3. نقل نموذج النجاح

من الضروري التوقف عن ربط النجاح بالعمل المتواصل، ونقل هذا النموذج إلى نموذج أكثر استدامة، يُقاس فيه النجاح بجودة النتائج، لا بعدد الساعات. وهذا يتطلب إعادة تعريف القيم المهنية على المستوى الفردي والجماعي.

4. بناء ثقافة عمل صحية داخل المؤسسات

تتحمل المؤسسات مسؤولية كبيرة في تغيير ثقافة العمل المفرط. ويشمل ذلك مراجعة سياسات ساعات العمل، تشجيع الموظفين على أخذ الإجازات، توفير برامج الدعم النفسي، وتدريب القادة على إدارة فرقهم بنهج يتسم بالتوازن والمرونة.

جدول مقارنة بين نمط العمل المفرط والعمل المتوازن

الخاتمة

إن التحول من ثقافة العمل المفرط إلى نمط أكثر توازناً لا يحدث بين عشية وضحاها، بل يتطلب إعادة نظر في القيم المهنية، وتنمية الوعي الذاتي، وتعزيز المهارات التنظيمية، إلى جانب تدخل مؤسسي داعم. لكن المكاسب على المدى الطويل، من صحة نفسية أفضل، وإنتاجية أعلى، وعلاقات اجتماعية متزنة، تجعل من هذا التحول ضرورة لا رفاهية.

المصادر:

1. Alex Pang, Rest: Why You Get More Done When You Work Less, Basic Books, 2016

2. WHO and ILO Joint Report: Long working hours increasing deaths from heart disease and stroke, 2021