الشهامة في أخلاق العرب

الشهامة: فضيلةٌ أصيلة وميراثٌ من المجد الإنساني

في عمق القيم الأخلاقية التي تشكّل نبراس المجتمعات الفاضلة، تبرز “الشهامة” كأحد أنبل السمات التي وُسم بها الإنسان النبيل، العربي منه تحديداً، لما لها من ارتباطٍ راسخٍ في ثقافته وتاريخه وتراثه الشعري والقصصي والديني. إنها تلك الصفة التي تختزل الرجولة، المروءة، العدل، الكرم، التضحية، والوفاء في سلوكٍ واحد، لا ينبع من مصلحة أو رياء، بل من شعور داخلي عميق بالإلزام الأخلاقي.

لقد تغنّى الشعراء بالشهامة منذ القدم، وجعلوها عنوانًا للفروسية والبطولة والنُبل، وركنًا من أركان الرجولة المكتملة. كانت الشهامة في الجاهلية مظهرًا من مظاهر الاعتزاز بالنفس والقبيلة، بينما في الإسلام ارتقت إلى فضيلة دينية وأخلاقية ترتبط بالإحسان إلى الغير، وإغاثة الملهوف، والعدل في المواقف.

المعنى اللغوي والاصطلاحي للـشهامة

في اللغة العربية، تُشتق الشهامة من مادة “شَهُمَ”، والشهامة تعني الحِدّة والعلوّ في الهمة، وقوة الإرادة، والكرم، والمروءة، والترفّع عن الصغائر. أما اصطلاحًا، فهي مزيج من صفات مركّبة، تتجسّد في إنقاذ الضعيف، نصرة المظلوم، الوقوف مع المحروم، ومبادرة الرجال العظام لمدّ يد العون دون مقابل.

تتجاوز الشهامة حدود المجاملة أو اللباقة الاجتماعية؛ فهي تصرّف نابع من إحساس أخلاقي داخلي، يرى أن من واجب الإنسان أن يكون سندًا لأخيه الإنسان، أن يُحسن حيث يستطيع، وأن ينصر الحق دون أن يُطلب منه.

الشهامة في التراث العربي

في الموروث العربي، تُروى القصص وتُنسج الأساطير عن فرسانٍ كانوا لا يترددون في بذل النفس والمال والجاه حمايةً للعرض، أو دفاعًا عن الحق، أو نصرةً لصاحب مظلمة. هؤلاء لم يُعرفوا فقط بقوة سواعدهم، بل بما رافقها من شهامة ونبل.

ومن أبرز الأمثلة، شخصية عنترة بن شداد العبسي، الذي لم يكن فقط فارسًا مغوارًا، بل شهِد له العرب بالشهامة والكرم والنجدة. فقد كان يُغيث الضعيف، ويقف في وجه الطغيان، وكان يرى أن الفروسية لا تكتمل بدون مروءة.

الشهامة في الإسلام

جاء الإسلام ليعزز مفاهيم الشهامة ويوجهها ضمن إطار أخلاقي دقيق، حيث ورد في الحديث النبوي الشريف: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.” وهذا المعنى هو جوهر الشهامة: مناصرة الآخرين، والتصرف بنبل حتى في أحلك الظروف.

كما أن الشهامة تتجلى في المواقف النبوية، مثل موقف النبي محمد ﷺ حين أُهين جاره اليهودي، فوقف معه، أو حين قاطع أهل مكة بني هاشم في شعب أبي طالب، فكان من بين مشركي قريش من أظهروا شهامةً ونبلاً فمزّقوا الصحيفة الجائرة رغم عدم إيمانهم بالرسالة المحمدية، لأن المروءة كانت أعلى من الخلاف العقائدي.

الشهامة في الشعر العربي

أفرد الشعراء العرب أبوابًا كاملة لوصف الشهامة وتمجيدها. فالشاعر الجاهلي كان يرى الشهامة مكمّلة للبطولة، ويقيس رجولة المرء بمدى قدرته على نصرة المظلوم، ومساعدة المحتاج.

قال المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا

وفي هذا البيت خلاصة الشهامة: الكرم النبيل مع من يستحق، والتمييز بين المروءة والشهامة الحقة، وبين التصنّع والمظاهر.

وقال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى:

ومن لا يَذُدْ عن حوضه بسلاحه

يُهدّم، ومن لا يَظلم الناس يُظلَمِ

وهذا البيت يعكس الشهامة من جانبها الحماسي، حيث يُربط النُبل بالقدرة على الحماية والدفاع، لا الجبن أو الاستسلام.

أشكال الشهامة في الحياة اليومية

رغم تغير العصور، فإن مفهوم الشهامة لم يمت، بل تغيّرت تجلياته. ففي المجتمعات الحديثة، تتجلى الشهامة في مواقف مثل:

• الدفاع عن امرأة تتعرض للتحرّش أو الظلم.

• الوقوف مع كبار السن ومساعدتهم في قضاء حاجاتهم.

• التدخل لفض نزاع بين طرفين بما يحفظ كرامة الجميع.

• مساندة من وقع في ضائقة مالية أو إنسانية.

• حماية الأطفال من العنف أو الاستغلال.

وفي كل هذه الحالات، لا ترتبط الشهامة بمقابل، بل بحسٍّ داخلي عميق بالواجب.

الشهامة في الأدب العربي الحديث

لم تغب الشهامة عن أدبنا المعاصر، بل ازدادت حضورًا مع تحولات المجتمع. نجدها في أعمال نجيب محفوظ، حيث يجسد بعض الشخصيات هذه الفضيلة في أحياء القاهرة الشعبية، رغم الفقر والحرمان.

كما نراها في الأدب الفلسطيني المقاوم، الذي يربط الشهامة بالدفاع عن الأرض والعرض والكرامة الوطنية. ومن النماذج الواضحة، شخصية “سعد” في رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، التي تعبّر عن الشعور بالمسؤولية تجاه الضعفاء والمقهورين.

الفرق بين الشهامة والتفاخر الزائف

ليست الشهامة محض ادعاء، ولا تستعرض في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا تنفصل عن التواضع. كثيرون يتظاهرون بالكرم والمروءة ويطلبون من الآخرين الاعتراف بها، لكن الشهامة الحقة لا تحتاج إلى شهود، بل تنبع من ضمير يقظ.

الشهامة تنقلب إلى نفاق حين تُوظف لتلميع الصورة، أو للتفاخر على حساب مشاعر الآخرين، أو حين ترتبط بالرياء والأنانية.

جدول يقارن بين الشهامة وبعض القيم المرتبطة بها

أثر الشهامة في بناء المجتمعات

حين تسود الشهامة بين الأفراد، تتأسس بيئة إنسانية راقية، يشيع فيها الإحساس بالمسؤولية الجماعية، وتقل فيها الأنانية، وتُحترم الكرامة، ويجد كل فرد سندًا له في محيطه. هذه الروح تعزز الأمن الاجتماعي، وتقلل من النزاعات، وتبني مجتمعًا متماسكًا يقوم على الدعم المتبادل.

ختامًا: الشهامة ميراثٌ يُورّث لا يُدرّس

الشهامة ليست درسًا في منهاج، بل هي سلوك يُكتسب عبر القدوة، وتُغرس جذوره في البيوت، وتُروى بماء القيم الدينية، والثقافية، والاجتماعية. إنها شرف الإنسان، وعنوان رجولته، ومرآة أخلاقه، وكنزٌ لا يُشترى ولا يُمنح، بل يُبنى بالمواقف والأفعال.

المراجع:

• ابن منظور، لسان العرب، مادة “شهم”.

• زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي.