تجسيدًا للهوية الفنية الفريدة التي يحملها الفنان الأستاذ محمد عبد الإله اليازغي، تأخذنا رحلتنا الفنية معه إلى أعماق تراث المغرب الشعبي والزجل. وُلد اليازغي في مكناس، مدينة ذات تاريخ غني وتراث ثقافي عميق، حيث استنبط من جذوره الفنية الأصيلة غناءه وشعره. يرتبط اسمه بالشعر الزجلي، فهو شاعر زجال غنائي، يتقن فنونه ببراعة ويعزف على وتر الكلمة بإتقان.
ينعكس تأثير منزله الفني في طفولته، حيث كان والده مطربًا وعازفًا ماهرًا على آلة العود وآلة القانون. هذا البيت الذي انبعثت منه نغم الفنون المغربية الأصيلة كان مدرسة للصغير الذي استمع إلى الألحان واللحن الذين غذت روحه الفنية.
طفولة اليازغي كانت محملة بالحب والعشق لكل ما هو جميل، حيث تجلى اهتمامه الأول بالموسيقى والشعر والغناء. عاش تلك الفترة بروح استكشافية، وبدأ يطور عشقه لفنون الموسيقى والغناء. رغم أنه لم يجد في البداية الدعم الكافي لتحقيق تلك الرغبات الفنية، إلا أن لقاءه ببعض الأصدقاء الشعراء كان النقطة التحولية. بدأ يلقي أزجاله الغنائية أمامهم، وكانت ردودهم الإيجابية هي الدافع الحقيقي الذي شجعه على إصدارها في كتاب ورقي مطبوع.
في حديثه عن مفهوم الشاعر، يصف اليازغي الشاعر بأنه “ذلك الإنسان الذي يعبر عن تجاربه وتجارب الآخرين بطريقة فنية موسيقية معينة”. إنه نظرة فنية تفتح أبواب التعبير الفني على أبعد مدى، حيث يصبح الشاعر قصة حياة تعكس معاناة الفرد والجماعة.
وفيما يتعلق بتنظيم الشعر المغربي الشعبي، يشدد اليازغي على أهمية الشعر الزجلي كفن من الفنون الشعبية المشهورة في المغرب. يُعد هذا النوع من الشعر فنًا راقيًا يحظى بتقدير الباحثين والعامة على حد سواء. يعيد اليازغي النظر في جذوره الأندلسية، حيث يروي أن الزجل نشأ في بلاد الأندلس كنظام غنائي أندلسي، وكانت بدايته في فترة تاريخية تميزت بالتلحين والتغني.
تتجلى فلسفة اليازغي حين يُسأل عن مدى استمرارية الشعر والزجل في العصر الحديث. يرى أن الشعر والزجل لا يزالان حيةً في قلوب الناس وعلى ألسنتهم. يُشير إلى وجود الإقبال المستمر على قراءة الشعر والزجل، وكيف أن الدواوين الشعرية والزجلية ما زالت تباع وتحظى بإعجاب الجماهير.
في محاولة للرد على من يروِّجون لفكرة تقهقر الشعر والزجل، يتحدث اليازغي بشكل قوي عن طموحهم الباطل وعن الحقائق التي تُظهر عكس ذلك. يشدد على أن الشعر والزجل لا يزالان يحتلان مكانة مهمة في الحياة الثقافية والفنية، مع التأكيد على التنوع في الأساليب والأشكال التي يتجسد فيها الشعر.
تاريخ نشوء القصيدة الزجلية في المغرب يعود إلى عبورها لأبواب الأدب الشعبي من خلال الباحث الجراري. مناقشته لأطروحته بعنوان “القصيدة الزجلية التقليدية” في جامعة القاهرة في عام 1969م، كانت لحظة فارقة. فكانت هذه المناقشة بمثابة تأكيد لأهمية الشعر الزجلي ومكانته في التراث الثقافي.
يظهر اليازغي كشاعر ملتزم بتراثه، حيث يرفع راية الزجل بفخر ويعيد تقديره واحترامه. يُناقش تحولات هذا النوع من الشعر على مدى العصور، مع تأكيده على استمراريته وتجديده. يُرى اليازغي أن الزمن لم يقهر هذا الفن الجميل، بل أعطاه قوة وعمقًا جديدين.
لم تكن رحلته الفنية تجربة سهلة، فقد تعرض للتهميش والإقصاء لفترة طويلة، وكان يتألم تحت وطأة عنصرية بعض الميتافيزيقيين الشعريين. ومع ذلك، استمر في النضال من أجل إعادة الشعر الزجلي إلى مكانته الحقيقية.
المناقشات حول زوال الشعر والزجل في الألفية الثالثة تُنفى بقوة من قبل اليازغي، الذي يقول إن هؤلاء الذين يدِّعون ذلك يحملون “دعوى باطلة لا يقوم عليها أي برهان”. يُشير إلى انتعاش الدواوين الشعرية والزجلية في هذه الألفية، حيث يشهد إقبالًا كبيرًا من قبل الجمهور على حضور الأمسيات الشعرية واقتناء الدواوين.
ديوانه الزجلي الأول “مزال كنبوغيك” يعكس تطوره كفنان وشاعر زجال. يستمد العنوان طاقته من الحياة الطبيعية ويرمز إلى استمرارية الإبداع والنضوج. يتناول الديوان مواضيع تتنوع بين الحب، والوطن، والهوية، ويُظهر اليازغي فيه تميزه في استخدام اللغة وتشكيل الألفاظ ليخلق لوحات شعرية تتراوح بين البساطة والعمق.
في ختام هذا الحوار، يظهر اليازغي كشاعر وفنان مغربي يحمل في قلبه تراثه ويسعى جاهدًا للمحافظة على هويته الفنية. يعكس حياته وعمله رحلة استكشافية وتطورًا مستمرًا، حيث يظل ملتزمًا بجعل الشعر الزجلي جزءًا لا يتجزأ من الحياة الثقافية في المغرب.
المزيد من المعلومات
بإمعاننا في تفصيل السيرة الفنية والثقافية للأستاذ محمد عبد الإله اليازغي، نجد أن حياته وأعماله تمثل تحفة فنية تعكس تنوع الفن في المغرب والمكانة الخاصة التي يحتلها الشعر الزجلي في هذا السياق.
نظرًا لتعلقه بتراث أسرته الموسيقي، لم يكن الفن بالنسبة لليازغي مجرد هواية، بل كان جزءًا لا يتجزأ من حياته. وفي هذا السياق، فإن والده كان ليس فقط مطربًا وعازفًا ماهرًا، بل كان أيضًا محترفًا يتميز بإتقان آلة العود وآلة القانون. هذا البيت الذي كان يتنفس الفن وينبعث منه إلهام الألحان، كان مدرسة حقيقية للأستاذ الشاب.
تعود طفولة اليازغي إلى بيت شعبي في مكناس، حيث انبثقت منها أصوات الفنون المغربية الأصيلة. يرى في هذه الفترة حبًا وشغفًا لكل ما هو جميل وفني، وكان الشعر والموسيقى والغناء هما المحور الرئيسي لهذا الشغف. كان عشقه الأول هو استماعه للموسيقى والشعر والغناء، ومن هنا بدأت رحلته الفنية المليئة بالاكتشاف والتعبير.
في تصريحه عن طفولته، يستعرض اليازغي كيف كان يعزف براعة على أوتار هوايته، ويقول: “أصبحت أردد بعضًا من الأغاني المغربية العصرية القديمة التي كنت أستمع إليها في صغري وأتقن أداءها جيدًا”. ومع ذلك، كانت تلك الهوايات تعيش في الخفاء، حتى حين التقى ببعض الأصدقاء الشعراء، وهنا بدأت رحلته الفعلية في عالم الشعر الزجلي.
الأستاذ محمد عبد الإله اليازغي لم يكتفِ بتقديم إسهاماته الفنية فقط، بل كان أيضًا ناشطًا اجتماعيًا وثقافيًا. يشغل منصب رئيس صالون الشعر التابع للجمعية المغربية للتنمية البشرية، وهو عضو في النقابة الحرة للموسيقيين المغاربة ورابطة الشعر الغنائي بالمغرب. كما يعمل كباحث في مجال الشعر والزجل، حيث يسعى إلى تسليط الضوء على جوانب مختلفة من هذا التراث الفني.
يظهر اليازغي بوضوح في الساحة الثقافية والفنية المغربية، حيث يشارك في الملتقيات الثقافية والفنية ويدعم الفنانين الشبان. وعبر عن تفانيه في الحفاظ على التراث الشعبي المغربي وترويجه، سواء من خلال أدائه الفني أو جهوده الثقافية.
ديوانه الزجلي الأول “مزال كنبوغيك” يمثل نقطة تحول في مسيرته الفنية. يشير عنوان الديوان إلى استمرارية الإبداع والنمو، حيث يستمر الفنان في التعبير عن ذاته وتطوره في فن الزجل. يجسد الديوان العديد من المواضيع التي تمس الحب، والوطن، والهوية، ويبرز فيه اليازغي بلغة فنية متقنة ورصينة.
مع انطلاقه في مشواره الفني، أكد اليازغي أهمية الزجل والشعر الشعبي في المشهد الثقافي المغربي. رغم التحديات والتهميش الذي واجهه، استطاع أن يتجاوز العراقيل ويبرهن أن هذا الفن الشعبي لا يزال حيًا ومتجددًا.