السرحان والثرثرة وفوائدها

اسرحوا وثرثروا.. تصحوا

تعتبر القدرة على الترحال الذهني، أو ما يسمى بالسرحان، والثرثرة بمختلف أشكالها من الظواهر النفسية والسلوكية التي ترافق الإنسان في حياته اليومية، وغالبًا ما تُفهم بصورة سلبية أو تُعد مضيعة للوقت. إلا أن الدراسات الحديثة في مجال علم النفس وعلم الأعصاب تشير إلى أن السرحان والثرثرة ليسا مجرد حالة من اللاوعي أو تشتت الانتباه، بل هما آليتان حيويتان تلعبان دورًا مهمًا في تعزيز صحة الدماغ والوقاية من الإرهاق الذهني وتحسين الأداء العقلي والوجداني.

في هذا المقال سنستعرض بشمولية أثر السرحان والثرثرة على الصحة النفسية، ونتناول كيفية استثمار هذه الظواهر بطريقة إيجابية تدعم الاستيقاظ الذهني، وتحسن نوعية التفكير والإنتاجية في الحياة اليومية.

مفهوم السرحان وأشكاله

السرحان هو حالة طبيعية تحدث عندما ينشغل ذهن الإنسان بأفكار أو صور ذهنية بعيدة عن الواقع المحيط به. يُعرف السرحان أيضاً بالترحال الذهني أو التفكير المتجول، وهو حالة من انقطاع الانتباه عن المهمة الحالية وتوجه الفكر نحو مواضيع أخرى، قد تكون مرتبطة بمخاوف، أحلام، تخيلات، أو حتى ذكريات.

تتراوح أشكال السرحان بين:

• السرحان التأملي: حيث يركز الإنسان على أفكار داخلية إيجابية أو استكشافية تساعده على حل المشكلات أو الإبداع.

• السرحان التلقائي: وهو ذاك السرحان الذي يحدث دون إرادة، ويترافق مع تشتت الانتباه.

• السرحان المتكرر أو المرضي: قد يرتبط بحالات نفسية مثل القلق أو الاكتئاب.

السرحان ليس بالأمر الجديد، فقد تناولته الثقافات والفلسفات عبر العصور بوصفه نافذة إلى أعماق العقل الباطن وفضاء واسعًا من التفكير الحر.

الثرثرة وأنواعها

الثرثرة عبارة عن حوار داخلي أو خارجي مستمر بين الإنسان وأفكاره أو مع الآخرين. يمكن أن تكون الثرثرة:

• الثرثرة الداخلية: وهي الكلام الذاتي الذي يدور في ذهن الفرد، ويعد أداة مهمة لتنظيم الأفكار وإدارة العواطف.

• الثرثرة الخارجية: الحوارات الكلامية التي قد تبدو بلا هدف أو ترتيب منطقي لكنها تساعد على تفريغ الضغوط النفسية وتنظيم العلاقات الاجتماعية.

تُظهر الأبحاث أن الثرثرة، سواء كانت داخلية أو خارجية، تلعب دورًا مهمًا في تعزيز القدرة على التركيز وإدارة الأفكار المعقدة.

العلاقة بين السرحان والثرثرة

غالبًا ما تترافق حالة السرحان مع نوع من الثرثرة الذهنية، حيث يزداد نشاط الحوار الداخلي أو الخارجي عندما يترك العقل حرية التجول بين الأفكار والمشاعر. هذا الحوار الذاتي يُعدّ بمثابة “محادثة مع الذات” تسمح للعقل بإعادة ترتيب المعلومات، وتقييم التجارب الحياتية، واستشراف الحلول لمشكلات معقدة.

من الناحية العصبية، تنشط أثناء السرحان شبكة تسمى “الشبكة الوضعية الافتراضية” (Default Mode Network – DMN) وهي شبكة دماغية تُشغل في حالة الراحة الذهنية، عندما لا يكون العقل منشغلاً بمهمة خارجية محددة. هذه الشبكة مسؤولة عن التفكير الذاتي، الذاكرة، والتخيل، وهي التي تدعم السرحان والثرثرة الذهنية.

الفوائد النفسية والعصبية للسرحان والثرثرة

1. تعزيز الإبداع وحل المشكلات:

السرحان يُتيح للعقل استكشاف أفكار غير تقليدية، مما يفتح مجالاً للإبداع والابتكار. أثناء السرحان، يتمكن العقل من الربط بين معلومات متفرقة أو تجارب سابقة بطرق جديدة، مما يسهل التفكير خارج الصندوق.

2. تخفيف الضغوط النفسية:

الثرثرة، خصوصًا الثرثرة الداخلية، تتيح للفرد التعبير عن مشاعره وأفكاره المكبوتة، مما يخفف التوتر ويقلل من آثار القلق. يمكن للثرثرة الخارجيّة، من خلال المشاركة في الحوار مع الآخرين، أن توفر دعمًا اجتماعيًا ويعزز الشعور بالانتماء.

3. تحسين الذاكرة وتنظيم الأفكار:

يعمل الحوار الذاتي كأداة لتنظيم المعلومات وتثبيتها في الذاكرة. كما يساعد السرحان على مراجعة الذكريات وتجهيزها للمعالجة الأعمق.

4. تعزيز القدرة على التركيز:

قد يبدو السرحان مضادًا للتركيز، لكنه في الحقيقة يمنح الدماغ فترة راحة قصيرة تتيح له إعادة شحن الموارد الذهنية، مما يؤدي إلى تحسين الانتباه عند العودة إلى المهمة.

5. دعم الصحة العقلية:

السرحان والثرثرة هما جزء من الوظائف النفسية الطبيعية التي تحافظ على توازن الصحة العقلية. قلة هذه الأنشطة قد ترتبط بالاكتئاب أو الفقدان المؤقت للتركيز.

السرحان والثرثرة بين السلبيات والمزايا

لا تخلو ظاهرة السرحان أو الثرثرة من بعض السلبيات في حال تجاوزت الحد الطبيعي أو أُسيء التعامل معها:

• السرحان المفرط: قد يؤدي إلى تشتت مزمن، وضعف الأداء في الدراسة أو العمل، خاصة عند الأشخاص الذين يعانون من اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD).

• الثرثرة الزائدة: قد تشتت الانتباه وتؤدي إلى الإحباط، خصوصًا إذا كانت مرتبطة بالقلق أو التفكير السلبي المفرط.

لذلك، يجب أن يكون السرحان والثرثرة منضبطين وموجهين بشكل إيجابي، من خلال ممارسة الوعي الذاتي وتقنيات التأمل الذهني أو التخطيط الواعي.

كيف نستخدم السرحان والثرثرة لتحسين نوعية حياتنا؟

• التأمل الواعي: يمكن توجيه السرحان ليكون أكثر إيجابية عبر ممارسة تمارين التأمل التي تسمح للعقل بالتركيز على الحاضر مع السماح للأفكار بالانسياب بحرية.

• الكتابة التعبيرية: تحويل الثرثرة الذهنية إلى كتابة يومية ينظم الأفكار ويخفف الضغوط النفسية، مما يعزز الوضوح الذهني.

• الحوار الذاتي البنّاء: استبدال الحديث السلبي مع الذات بحوار داعم ومحفز، يساعد في رفع الثقة بالنفس وتحسين الصحة النفسية.

• التوازن بين الراحة والإنجاز: الاستفادة من السرحان كمهلة ذهنية قصيرة تعيد شحن الدماغ، مع الانتباه للعودة بسرعة إلى المهمات الفعلية.

السرحان في عالم العمل والتعلم

تشير دراسات حديثة إلى أن السرحان يمكن أن يكون مفيدًا في سياقات العمل والتعليم، خاصة في فترات التعلم الطويلة أو المهام التي تتطلب تركيزًا مستمرًا. يسمح السرحان القصير للعقل بالابتعاد عن ضغط المهمة والتركيز على مشاعر داخلية أو أفكار إبداعية.

مثلاً، في بيئة العمل، يمكن للموظف أن يستفيد من فترات قصيرة من السرحان لاستعادة النشاط العقلي والتجديد، مما يقلل من الإجهاد ويزيد من الإنتاجية.

الجدول التالي يوضح الفرق بين السرحان الإيجابي والسلبي:

خلاصة الأمر

السرحان والثرثرة ليستا مجرد إضاعة للوقت أو علامات على ضعف التركيز، بل هما ظاهرتان نفسيّتان ضروريتان للعقل البشري، تعملان على إعادة شحن الدماغ وتنظيم الأفكار وتخفيف الضغوط النفسية. يمكن استثمارهما بشكل إيجابي في الحياة اليومية من خلال الممارسة الواعية والاعتدال، مما يحقق توازنًا بين الراحة الذهنية والأداء الفعّال.

الوعي بهذه الظواهر وكيفية إدارتها يمكن أن يكون مفتاحًا لصحة نفسية أفضل وإنتاجية أعلى، ويمنح الفرد القدرة على الاستيقاظ الذهني الحقيقي، الذي لا يعني فقط الانتباه للبيئة المحيطة، بل يشمل أيضًا تنشيط الحوار الداخلي المثمر والرحلات الذهنية التي توسع آفاق الإدراك والتفكير.

المراجع:

1. Smallwood, J., & Schooler, J. W. (2015). The Science of Mind Wandering: Empirically Navigating the Stream of Consciousness. Annual Review of Psychology, 66, 487-518.

2. Morin, A. (2005). Possible links between self-awareness and inner speech: Theoretical background, underlying mechanisms, and empirical evidence. Journal of Consciousness Studies, 12(4-5), 115-134.