هل اتخاذ زوجة ثانية يضاد الوفاء للأولى؟ دراسة شرعية ونفسية واجتماعية موسعة

يتجدّد النقاش في المجتمعات الإسلامية والعربية حول مسألة التعدّد في الزواج، وتحديدًا ما إذا كان اتخاذ الرجل لزوجة ثانية يُعدُّ خيانة أو نقصًا في الوفاء تجاه الزوجة الأولى. وهو سؤال يتأرجح بين النصوص الدينية والموروثات الثقافية والتقاليد الاجتماعية، وبين السياقات النفسية والوجدانية التي تعيشها المرأة والرجل على حد سواء. فبينما يرى البعض أن التعدد حق شرعي للرجل لا ينبغي تأويله أخلاقيًا، يرى آخرون أن هذا السلوك قد يحمل في طيّاته دلالات عاطفية معقّدة قد تُفهم على أنها انعدام للوفاء.

هذا المقال يقدم دراسة موسّعة حول هذه القضية الحساسة، مستندًا إلى النصوص الإسلامية، والاعتبارات النفسية، والآثار الاجتماعية، مع مراعاة الأبعاد الإنسانية المرتبطة بالمشاعر والأحاسيس، ليُظهر جوانب الموضوع كافة دون تحيّز أو تبرير.

أولًا: الإطار الشرعي لمسألة التعدد

مشروعية التعدد في الإسلام

التعدد في الزواج مذكور صراحة في القرآن الكريم في قوله تعالى:

“فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً” (سورة النساء: 3)

من هذه الآية يتضح أن التعدد ليس فقط جائزًا، بل هو تشريع إلهي مشروط بالعدل، إذ إن العدل هو العنصر الأساسي الذي يقيد هذا الحق. وبناءً عليه، فإن الأصل هو الإباحة، لا الوجوب ولا الندب، وهو مشروط بقدرة الرجل على تحقيق المساواة في النفقة والمعاملة، لا في الحب القلبي، وهو ما أكّده قوله تعالى:

“وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ” (النساء: 129)

هل يجوز للرجل التعدد دون رضا الزوجة الأولى؟

شرعًا، لا يُشترط إذن الزوجة الأولى لاتخاذ زوجة ثانية، إلا أن فقه الواقع والحكمة والمروءة تستدعي إخبارها، بل وتهيئتها نفسيًا لمثل هذا القرار المصيري. وقد نصّ علماء كبار على أن “إخبار الزوجة الأولى قبل الزواج الثاني ليس واجبًا لكنه من حسن العشرة”.

ثانيًا: الوفاء الزوجي: تعريفه وأبعاده

ما هو الوفاء في الزواج؟

الوفاء في العلاقة الزوجية لا يعني الجمود على شكل واحد من أشكال العلاقة، بل يتعلّق بالصدق، والحفاظ على الحقوق، والرعاية، والإخلاص في المسؤوليات، والالتزام العاطفي والمعنوي، وحماية المشاعر. الوفاء لا يُختزل فقط في المسائل الجنسية أو الشكلية، بل هو منظومة من السلوكيات المستمرة.

الوفاء في ضوء التعدد

السؤال الجوهري هنا: هل اتخاذ زوجة ثانية يناقض هذه المعاني؟

الإجابة الدقيقة تكون بـ”لا” من المنظور الشرعي المحض، لأن الوفاء لا يتحدد بعدد الزوجات، بل بالسلوك تجاه كل زوجة. فإذا كان الرجل عادلًا، محققًا لمتطلبات الزوجة الأولى من احترام ومودة وحقوق مادية ومعنوية، فلا يُعدُّ خائنًا ولا ناكثًا للوفاء.

ولكن، يجب التنبّه إلى أن الوفاء من المنظور النفسي والعاطفي قد يختلف عن المنظور الشرعي المجرد، لأن بعض الزوجات يربطن الوفاء بالإخلاص الكامل لها وحدها، وهو مفهوم وجداني مشروع ومؤلم حين يُنتقص.

ثالثًا: الاعتبارات النفسية للزوجة الأولى عند التعدد

الأثر النفسي على المرأة

من أكثر ما تعانيه الزوجة الأولى عند معرفة زواج زوجها بامرأة أخرى هو الشعور بالخيانة والخذلان، حتى إن لم يكن هناك خيانة بالمعنى الحرفي. فالمرأة بطبيعتها الفطرية تميل إلى الامتلاك العاطفي الكامل لشريكها، وتشعر بأن التعدد تقاسم لعاطفة طالما كانت تُظَنُّ أنها خاصة وحصرية.

الأعراض النفسية الشائعة تشمل:

• انخفاض التقدير الذاتي: تشعر المرأة بأنها لم تعد كافية أو جذابة.

• القلق والاكتئاب: بسبب الإحساس بالهجر العاطفي والمقارنة المستمرة مع الزوجة الثانية.

• نوبات الغضب أو الصمت الانفعالي: كرد فعل للخذلان.

• أزمات الثقة: تجاه الزوج، وأحيانًا تجاه جميع الرجال.

كيف يمكن تقليل الأذى النفسي؟

يتطلب ذلك:

• حوارًا شفافًا وصادقًا من الزوج يشرح فيه دوافعه وأهدافه.

• تعاملًا رقيقًا متزنًا يحفظ كرامة الزوجة الأولى.

• تذكير الزوجة بحقوقها ومكانتها، وعدم تقليل قيمتها أمام نفسها أو المجتمع.

رابعًا: الدوافع المختلفة وراء الزواج الثاني

أسباب شرعية أو اجتماعية للتعدد

قد يتزوج الرجل ثانية لأسباب منها:

• عدم قدرة الزوجة الأولى على الإنجاب.

• مرض مزمن يمنع العلاقة الزوجية.

• وجود دوافع جنسية قوية لا ترويها العلاقة الواحدة.

• أسباب اجتماعية كحاجة امرأة أرملة أو مطلقة لمن يعيلها ويسترها.

• اختلافات جوهرية لا تصل إلى حد الطلاق لكن تجعل الحياة الزوجية الأولى غير متكاملة.

أسباب غير مقبولة أخلاقيًا

• النزوات العابرة.

• الملل المؤقت.

• السعي للتباهي الاجتماعي.

• ضعف الشخصية وتأثر بضغط أصدقاء أو أقارب.

في هذه الحالات، يمكن أن يُفهم الزواج الثاني على أنه نوع من عدم الوفاء، ليس بسبب التعدد بحد ذاته، ولكن بسبب النية والدافع والطريقة التي تم بها اتخاذ القرار.

خامسًا: التعدد بين العدل والجرح العاطفي

التعدد لا يمكن عزله عن المشاعر. حتى إن كان مشروعًا ومباحًا، فإن له تكلفة شعورية يجب تقديرها. الشرع الإسلامي لا يفصل التشريع عن الرحمة، بل يُوجّه دائمًا إلى مراعاة الأحاسيس والمشاعر ضمن أحكامه، ولهذا ورد أن من لم يعدل “جاء يوم القيامة وشقه مائل”.

إن العدل في التعدد لا يعني فقط العدل في النفقة والمبيت، بل يشمل:

• العدل في الكلمة: عدم تفضيل أو مدح واحدة أمام الأخرى.

• العدل في الوقت النفسي: إعطاء كل زوجة شعورًا بأنها محبوبة ومقدّرة.

• العدل في الإنفاق على الأولاد: إن وُجدوا من الطرفين.

لكن من المهم التفريق بين العدل والتساوي المطلق، فالتساوي غير ممكن في الأمور الوجدانية، والشرع لا يطالب به، وإنما يطالب بقدر من الإنصاف والمعاملة الحسنة.

سادسًا: تأثير التعدد على الأسرة والمجتمع

في حال تحقق العدل والوفاء

• قد يساهم في حفظ كرامة المرأة التي تصبح زوجة ثانية.

• يسهم في تقليل نسبة العنوسة والمطلقات.

• يوفر مناخًا من الاستقرار الأسري إذا ما أُدير الأمر بحكمة.

في حال الغياب العدل أو السلوك الأناني

• يُنتج أسرًا متصدعة نفسيًا.

• يولد غيرة قاتلة بين الأبناء.

• يؤدي إلى كراهية الزوجة الأولى للزوج.

• قد يتسبب في انهيار الزواج الأول، وربما حتى الزواج الثاني لاحقًا.

سابعًا: موقف المجتمعات بين الشرع والعاطفة

رغم أن التعدد مباح شرعًا، فإن كثيرًا من المجتمعات الإسلامية باتت ترى فيه سلوكًا غير مقبول اجتماعيًا. إذ يُعدُّ التعدد في بعض البيئات “وصمة” حتى وإن كان الرجل ملتزمًا بشروطه. ويعود هذا الموقف إلى تأثير الثقافة الغربية الحديثة، وإلى تصاعد مكانة العاطفة في العلاقات الزوجية المعاصرة.

إن غلبة العاطفة على الفهم التشريعي قد تؤدي إلى رفض أي زواج ثانٍ بوصفه خيانة، والعكس أيضًا غير محمود: حيث تُمارس التعددية كحق خالص دون النظر إلى آثارها الإنسانية.

ثامنًا: كيف يكون التعدد موافقًا للوفاء؟

يتحقق ذلك حين:

• يكون الدافع حقيقيًا لا عبثيًا.

• تُراعى كرامة الزوجة الأولى ووجدانها.

• يُمنح الزواج الأول كامل الحقوق المعنوية والمادية.

• يكون الزوج على قدر عالٍ من العدل النفسي والوجداني.

• يُتجنّب التفاخر أو مقارنة الزوجات أو التلميح بالتفضيل.

• يُسعى لجعل الزوجة الأولى تشعر بالأمان لا بالإقصاء.

تاسعًا: خلاصة شاملة

اتخاذ زوجة ثانية لا يُعدُّ بحد ذاته نقضًا للوفاء، لكن الطريقة التي يتم بها، والدوافع التي تحرّكه، والسلوك المترتب عليه هو ما يحدّد إن كان وفاءً أم خيانة. فليس التعدد هو المشكلة، بل غياب العدل والمروءة والمراعاة. ولهذا نجد من يتزوج ثانية ويبقى كريمًا وعطوفًا ومخلصًا، كما نجد من لا يتزوج ثانية ويهين الأولى بمواقفه وسلوكه.

تتطلّب هذه المسألة فهمًا عميقًا لأبعاد العلاقة الزوجية، وتوازنًا بين الشرع والمشاعر، وإدراكًا أن الوفاء لا يقاس بعدد الزوجات، بل بالعدل في القلوب والسلوك.

المصادر والمراجع:

1. ابن عاشور، التحرير والتنوير، تفسير سورة النساء.

2. محمد راتب النابلسي، موسوعة الزواج في الإسلام.