الزواج من ضحية اغتصاب

المُغتَصَبة.. أتعاطف معها نعم، أتزوّجها لا: قراءة نقدية في ثقافة العار والعدالة المجتمعية

في المجتمعات العربية كما في كثير من الثقافات حول العالم، يظل مفهوم “الشرف” متجذرًا في بُنى اجتماعية تقليدية تميل إلى ربط كرامة المرأة بجسدها وعذريتها، بدلًا من شخصيتها وإنسانيتها وحقوقها الأساسية. وفي هذا السياق، تبرز قضية ضحايا الاغتصاب بوصفها إحدى أكثر القضايا التباسًا وتعقيدًا في الرأي العام، وخاصة حينما تُطرح في إطار الزواج والارتباط العاطفي. إذ كثيرًا ما نسمع عبارة: “أتعاطف معها نعم.. لكن أتزوجها؟ لا”، ما يعكس ازدواجًا مؤلمًا في المعايير، يضع الضحية في قفص الاتهام بدلًا من دعمها واسترداد كرامتها المهدورة.

هذا المقال يُعالج الظاهرة من جوانب متعددة: أخلاقية، اجتماعية، نفسية، قانونية، وثقافية، ليفكك البنية الذهنية التي تُكرّس هذه الازدواجية، ويدعو إلى مراجعة شاملة للمنظومات التي تحوّل الضحية إلى منبوذة اجتماعيًا، بدلًا من تقديم الدعم الفعلي لها.

أولاً: من هو الضحية ومن هو الجاني؟

الاغتصاب، بحسب القوانين الدولية، جريمة عنف جسدي ونفسي، وليس “سقطة أخلاقية” كما تُصوّر في بعض المجتمعات. الضحية لم تختر ما حدث، ولم تشارك فيه، بل فُرض عليها فرضًا. ومع ذلك، وفي كثير من السياقات الثقافية، يُنظر إلى المرأة المغتصبة وكأنها “شاركت” في الجريمة، أو على الأقل أصبحت “ملوّثة”، ما يجعلها “غير صالحة للزواج” في أعين بعض الذكور. هذا المفهوم يُعبّر عن إشكالية عميقة في فهم الأخلاق والعدالة، حيث يُحاسب الضحية على الفعل، في حين يتم التستر في كثير من الأحيان على الجاني أو يتم تبريره اجتماعيًا.

ثانيًا: الزواج كعقوبة أم شفاء؟

في بعض الدول العربية، سادت لفترة قوانين تتيح للمغتصب الإفلات من العقوبة إذا تزوّج ضحيته، كما حدث سابقًا في المغرب ولبنان والأردن وغيرها. هذه القوانين، وإن أُلغيت في كثير من البلدان، لا تزال تعكس ذهنية قانونية واجتماعية ترى في الزواج “حلًا” وليس كارثة مضاعفة. فالزواج في هذه الحالة ليس علاجًا نفسيًا ولا استعادةً للكرامة، بل هو استكمالٌ للإيذاء وشرعنةٌ له.

أن يقول أحدهم “لن أتزوّج مغتصبة” لأنه “لا يستطيع تقبل ماضيها”، بينما هو يعترف بأنها ضحية، يُشير إلى اضطرابٍ أخلاقي في البنية القيمية. فالرفض لا ينبع من رفض الجريمة، بل من رفض آثارها الجسدية والنفسية على الضحية، وكأنها أصبحت عبئًا لا يُغتفر، لا لأنها متضررة، بل لأنها “غير كاملة” بنظر معايير عذرية مختزِلة للمرأة.

ثالثًا: منظور علم النفس الاجتماعي

النساء اللواتي يتعرضن للاغتصاب يُعانين من آثار نفسية عميقة تمتد على مدى سنوات، تشمل اضطراب ما بعد الصدمة، فقدان الثقة بالنفس، الاكتئاب، الخوف من المجتمع، الشعور بالذنب والخزي، وغيرها. ويأتي الموقف الاجتماعي السلبي تجاههن كعامل مضاعِف لهذه الآثار، حيث تشعر الضحية أنها منبوذة وغير مرغوب فيها، بدلًا من أن تحظى باحتواء ودعم.

حين يعلن رجل تعاطفه مع الضحية، ثم يرفض الزواج بها بدعوى “الواقع”، فإنه يُشارك – عن قصد أو غير قصد – في تكريس ثقافة العار. هو لا يُعلن فقط عن رفضه الشخصي، بل يُعيد إنتاج خطاب مجتمعي يربط بين قيمة الإنسان وجسد المرأة، ويجعل الزواج قرارًا قائمًا على معايير لا إنسانية.

رابعًا: المعايير المزدوجة والتمييز الجندري

تُظهر الإحصائيات الاجتماعية والأنثروبولوجية أن المجتمعات الذكورية تُمارس نوعًا من “العفو” الضمني تجاه الذكر الذي يرتكب جرائم جنسية، بينما تفرض أقصى درجات العقوبة الاجتماعية على المرأة التي تتعرض لها. الشاب قد يُسامَح على “نزواته”، بينما تُوصم الفتاة، حتى وإن كانت ضحية، بالعار.

هذا التمييز يعكس ازدواجية معيارية تُغذيها التربية الثقافية والدينية المغلوطة التي تُركّز على “جسد المرأة” كمصدر للعار أو الطُهر، متناسيةً أن الجريمة لا تُصبح أخف وطأة لأنها استهدفت امرأة، ولا يجوز تحميلها آثارًا أخلاقية لا تُناسب فعلها.

خامسًا: بين القيم الدينية والتشويه الاجتماعي

الإسلام، من حيث مبدأ العدالة والرحمة، لا يُحمّل الضحية أي ذنب في حال الاعتداء أو الإكراه. بل إن من يتّهم المحصنات دون بيّنة يُعاقب على فعله. ومع ذلك، فإن التفسير المجتمعي للنصوص الدينية يُنتج في كثير من الأحيان تصورات تبتعد عن المقاصد الحقيقية للدين.

التشويه الذي طال المفاهيم الدينية أدى إلى تحميل الضحية ما لا تحتمله، وتبرير الجاني أحيانًا بحجج تتعلق بلبس المرأة أو سلوكها أو خروجها، وكأنها دعت إلى الجريمة. وهذا يُعد انحرافًا خطيرًا عن القيم القرآنية التي تُدين الظلم بكل أشكاله.

سادسًا: العذرية كمقياس للعفة.. أزمة مفاهيم

تكمن إحدى أعمق إشكاليات هذا الخطاب في ربط العفة بالعذرية، كأنما غشاء البكارة هو معيار الأخلاق الوحيد. هذا الربط الجائر يُقصي النساء اللواتي تعرّضن للعنف أو حتى لحوادث طبية أو ولادات صعبة، ويُحوّل العذرية إلى أداة لمراقبة النساء ومعاقبتهن.

الاغتصاب ليس مقياسًا على السلوك الأخلاقي للضحية، بل هو دليل على الوحشية المجتمعية والتقصير الأمني والثقافي. وعليه، فإن اختزال قيمة المرأة في سلامة عضو جسدي يُعبّر عن قصور أخلاقي وفكري يتطلب تفكيكًا وتحررًا منه.

سابعًا: الإعلام والسينما كمرآة ومشكلة

لعب الإعلام والدراما دورًا مزدوجًا في هذه القضية. فبينما قدّمت بعض الأعمال قصصًا متعاطفة مع ضحايا الاغتصاب، ظلّت الغالبية تعيد إنتاج نفس الصور النمطية: المغتصبة كعار يجب التخلص منه، أو كفتاة “خربت” ويجب تزويجها للمغتصب لتغطية الفضيحة.

هذه الرسائل الإعلامية تساهم في ترسيخ القيم السلبية، وتجعل من الجمهور طرفًا في المعاقبة المعنوية للضحية، ما يعمّق أزمتها بدلًا من تحريرها من نظرة الاستهلاك الجسدي.

ثامنًا: إعادة تعريف الرجولة

حين يرفض رجل الزواج من مغتصبة، حتى وهو يعترف ببراءتها، فإن علينا أن نعيد طرح السؤال حول مفهوم الرجولة ذاته. هل الرجولة هي القدرة على فرض السيطرة وتحديد معايير الطهر؟ أم هي القوة الأخلاقية للوقوف إلى جانب المظلوم، بغض النظر عن نظرة الناس؟

الرجولة الحقيقية لا تكمن في التهرب من ضحية بل في القدرة على منحها شريكًا إنسانيًا يُعيد لها الثقة بنفسها والعالم. أن تختار الوقوف مع من جُرِح في إنسانيته، هو اختيار لا يصنعه الجُبن أو الحسابات الاجتماعية، بل يصنعه الوعي والإرادة الأخلاقية.

تاسعًا: نحو وعي جديد ومجتمع أكثر عدالة

المطلوب ليس فقط تغيير وجهات النظر الفردية، بل تفكيك المنظومات التي تُنتج الإقصاء وتُبرر التمييز. المطلوب هو تبني خطاب قانوني وثقافي جديد، يرى في ضحايا العنف الجنسي بشرًا كاملين، لا جُثثًا اجتماعية يجب دفنها بالصمت والرفض.

إدماج النساء ضحايا العنف في الحياة العامة، وتوفير العلاج النفسي والاجتماعي لهن، وإعادة تأهيل المجتمع ليكفّ عن ربط الكرامة بالجسد، هو الطريق الوحيد نحو مجتمع لا يساوم على العدالة.

جدول: مقارنة بين المجتمعات التي تُكرّس العار والمجتمعات التي تُكرّس العدالة

الخاتمة

عبارة “أتعاطف معها نعم.. أتزوجها لا” ليست مجرد رأي فردي، بل هي انعكاس لمجتمع لا يزال يحاسب الضحية ويبرّئ الجاني، مجتمع يحتاج إلى إصلاحات جذرية على مستوى الفكر والقيم والتشريع. الرحمة الحقيقية لا تقف عند حدود الشفقة، بل تتجسد في الأفعال، وفي الالتزام بعدالة لا تتبدّل أمام صدمة العرف أو سطحية النظرة إلى الجسد.

المراجع:

1. منظمة الصحة العالمية (WHO): تقارير حول الصحة النفسية لضحايا العنف الجنسي.

2. الأمم المتحدة (UN Women): الإطار الحقوقي والإنساني لدعم ضحايا العنف الجنسي.