الدفاع عن النفس في الإسلام
يُعدّ الدفاع عن النفس من الحقوق الفطرية التي منحها الله تعالى للإنسان، وجعلها من مظاهر حفظ النفس، أحد المقاصد الخمسة الكبرى في الشريعة الإسلامية، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وقد اهتمّ الإسلام اهتمامًا بالغًا بحفظ النفس البشرية من كل عدوان، وشرّع للإنسان أن يدافع عن نفسه، وأهله، وعِرضه، وماله، إذا ما تعرّض لاعتداء، وجعل ذلك من الأفعال الممدوحة التي تدل على كمال الرجولة، وقوة الإيمان، ووعي الإنسان بحقه في الحياة الآمنة الكريمة.
أصل مشروعية الدفاع عن النفس
يستند مشروعية الدفاع عن النفس في الإسلام إلى نصوص قطعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، تدلّ دلالة صريحة على أنّ من حق الإنسان أن يدفع الأذى عن نفسه ولو بالقوة، وأنّه غير ملوم في ذلك، بل مأجور إذا قُتل مظلومًا.
أدلة من القرآن الكريم
-
قال الله تعالى:
﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الإسراء: 33]
وهذه الآية تُظهر بجلاء حرمة النفس الإنسانية، وأنّ أيّ اعتداء عليها ظلمًا هو منكر عظيم، ومن ثم فإنّ الدفاع عنها واجب شرعي. -
وقال تعالى:
﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: 194]
هذه الآية الكريمة تقرر مبدأ المعاملة بالمثل في حالة الاعتداء، وهو ما يشكل الأساس الفقهي للدفاع المشروع عن النفس.
أحاديث نبوية شريفة
-
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد”
[رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني]. -
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام:
“إذا دخل أحدُكم بيته فليذكر اسم الله، فإن الشيطان لا يدخل بيتًا يُذكر فيه اسم الله، وإذا وضع طعامه فليذكر اسم الله…” [رواه مسلم].
وإن كان هذا الحديث لا يتعلق بالدفاع المادي، إلا أنه يُشير إلى أهمية التحصين الروحي والدفاع المعنوي.
أنواع الدفاع المشروع في الإسلام
1. الدفاع عن النفس
عندما يتعرّض الإنسان لعدوان مباشر يهدد حياته، كأن يُعتدى عليه بالضرب أو السلاح، فله الحق الكامل في أن يدافع عن نفسه حتى وإن أدى ذلك إلى قتل المعتدي، شريطة أن لا يكون لديه وسيلة أخرى لرد العدوان دون القتل، وأن يكون دفاعه بقدر الضرورة فقط.
2. الدفاع عن العرض
العرض من الأمور المغلّظة التي شدد الإسلام في حفظها، وجعل الاعتداء عليه من كبائر الذنوب. والدفاع عن العرض واجب، ويجوز فيه استخدام القوة، بل والقتل إن استلزم الأمر ذلك. فمن قُتل دون عرضه فهو شهيد كما نصّ الحديث الشريف.
3. الدفاع عن المال
المال عِرضٌ مصغّر، وحمايته واجب شرعي، لذلك أجاز الإسلام ردّ العدوان الذي يُقصد به السرقة أو النهب. ومع ذلك، فقد قرر الفقهاء أن الدفاع عن المال لا ينبغي أن يصل إلى القتل إلا إذا لم يمكن ردّ العدوان إلا به.
4. الدفاع عن الآخرين والمجتمع
لا يقتصر الدفاع المشروع على النفس والمال والعرض، بل يتعداه ليشمل الدفاع عن الآخرين إذا تعرّضوا لعدوان. فالمسلم مسؤول عن غيره من المسلمين، كما في الحديث: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه…”، وهذا يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن المظلوم.
الضوابط الشرعية للدفاع عن النفس
رغم أن الإسلام أجاز الدفاع عن النفس، إلا أنّه قيّده بجملة من الضوابط التي تضمن عدم تحول الدفاع إلى اعتداء، وتمنع الفوضى واستباحة الدماء:
1. التدرّج في الرد
ينبغي للمعتدى عليه أن يردّ العدوان بأقل قدر ممكن من الضرر، فإن أمكنه الهرب أو الاستغاثة أو الشكوى إلى السلطات، كان أولى من اللجوء إلى العنف المباشر.
2. أن يكون الرد في نفس وقت العدوان
لا يجوز التربص بالمعتدي للانتقام لاحقًا، لأن هذا لا يُعدّ دفاعًا بل يصبح نوعًا من العقوبة الخاصة أو الثأر، وهو منهي عنه شرعًا.
3. أن يكون الدفاع بقدر الضرورة
لا يُباح للمعتدى عليه أن يبالغ في ردّ العدوان، فإذا أمكن دفع المعتدي دون قتله، فلا يجوز له أن يقتله. فإن قتله مع القدرة على دفعه دون ذلك كان آثمًا.
4. عدم استخدام الدفاع ذريعة للظلم
أحيانًا يستخدم بعض الناس ذريعة الدفاع عن النفس للاعتداء على الآخرين، وهذا باطل، إذ إنّ الدفاع مشروع فقط إذا كان في حال وقوع العدوان فعليًا، لا ادّعاءً.
آثار الدفاع المشروع في الإسلام
شرع الإسلام الدفاع المشروع حماية للإنسان من الذلّ، ومنحًا له بالكرامة، وإقامةً للعدل، وتحقيقًا للسلم الاجتماعي. ومن الآثار المترتبة على مشروعية الدفاع:
1. الحماية الذاتية دون اعتماد مطلق على السلطات
رغم أنّ الدولة مسؤولة عن حماية الأفراد، إلا أنّ الإسلام لا يطالب الفرد بأن يظلّ مكتوف اليدين في حال تعرّضه للظلم، بل أجاز له حماية نفسه دون انتظار تدخل رسمي، وهو ما يرسّخ الوعي بالمسؤولية الفردية.
2. تحقيق الأمن الشخصي
عندما يعلم الظالم أو المعتدي أن الآخرين لن يصمتوا على ظلمه، فإنّ ذلك يكون رادعًا له، وهو ما يخلق مناخًا من الأمن والأمان في المجتمع.
3. حفظ الكرامة الإنسانية
السكوت على الاعتداء ظلم للنفس، وامتهان للكرامة، لذلك فإن الدفاع المشروع يحفظ للإنسان عزته وكرامته، وهي قيمة أصيلة في الإسلام.
موقف الفقهاء من الدفاع عن النفس
اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على مشروعية الدفاع عن النفس، مع تفاوت يسير في التفاصيل والقيود، ويمكن تلخيص أبرز أقوالهم في الجدول التالي:
| المذهب | الحكم على الدفاع عن النفس إذا أدى إلى قتل المعتدي | الشروط |
|---|---|---|
| الحنفي | مباح، لا قصاص إذا كان المدافع مضطرًا | ألّا يتجاوز في الرد |
| المالكي | واجب في بعض الحالات | إن لم يمكن النجاة إلا بالقتل |
| الشافعي | لا قصاص إذا كان مضطرًا | يجب أن يكون دفعًا للعدوان فقط |
| الحنبلي | الدفاع جائز وقتل المعتدي لا يُؤاخذ عليه | أن يكون الفعل في وقت الهجوم |
التكامل بين الدفاع الفردي والنظام القانوني
رغم أن الإسلام أجاز للإنسان أن يدافع عن نفسه في لحظة الاعتداء، إلا أنّه لم يُلغِ دور الدولة والسلطات في حماية الناس، بل جعل الاحتكام إلى القانون والتشريعات الوضعية جزءًا من النظام العام الذي لا ينبغي تجاوزه.
في حالات الدفاع المشروع، يجب على المدافع بعد انتهاء الخطر أن يُسلم نفسه إلى السلطات المختصة للتحقيق فيما جرى، والتأكد من أنّ ما وقع كان فعلاً دفاعًا مشروعًا وليس اعتداءً مقنّعًا. وهذا ما يضمن العدالة، ويحول دون استخدام العنف الفردي وسيلة للفوضى.
الخلاصة
إنّ الدفاع عن النفس في الإسلام حق مشروع، بل في بعض الأحيان يكون واجبًا شرعيًا، خاصة إذا كان الاعتداء يمسّ النفس أو العرض أو الدين. وقد قرر الإسلام هذا الحق بما يتوافق مع مقاصده العليا في حفظ النفس والكرامة، ووضع ضوابط دقيقة تضمن تمييز الدفاع المشروع عن الاعتداء الظالم، وأقرّ للمدافع أجرًا إن كان مظلومًا، ورتّب له الحماية الشرعية والقانونية.
ومع ذلك، فإنّ الإسلام لا يدعو إلى العنف ولا يُشجع عليه، بل يدعو إلى السلم، ويحثّ على درء العدوان بالطرق السلمية متى أمكن، وإذا استحال ذلك، كان الدفاع المشروع هو السلاح الشرعي الذي يحفظ الحقوق ويدفع الظلم.
المراجع:
-
ابن قدامة، المغني، دار الفكر.
-
الشوكاني، نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار، دار الحديث.
