الحياء شعبة من الإيمان
الحياء خلق كريم، ومنزلة رفيعة في الإسلام، جعله الله عز وجل جزءًا لا يتجزأ من منظومة الإيمان، بل شعبة من شعبه، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياء شعبة من الإيمان». وهذا التصريح النبوي يبرز المكانة العظيمة التي يتبوأها هذا الخلق في منظومة الأخلاق الإسلامية، ويبين مدى ارتباط الحياء بالإيمان، حتى صار الحياء عنوانًا على صحة الإيمان في قلب العبد.
تعريف الحياء في اللغة والاصطلاح
في اللغة، الحياء مأخوذ من مادة (حَيِيَ)، ويقال: “استحيا فلان” أي خجل، و”أحياه الله” أي جعله حييًّا، ويُستعمل الحياء للدلالة على الانقباض والانزجار عن فعل القبيح خشية اللوم أو تأنيب الضمير. وهو شعور ينبعث في النفس عند إدراك قبح الفعل أو عند مقارفة الخطأ، فيمنع الإنسان من الإقدام عليه.
أما في الاصطلاح الشرعي، فالحياء خُلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. ويشمل الحياء من الله، والحياء من الناس، والحياء من النفس. ومن هنا يتضح أن الحياء ليس مجرد خجل أو ضعف في الشخصية، بل هو قوة داخلية نابعة من الإيمان، توجّه السلوك وتضبط الأفعال وتحدّ من الانزلاق إلى الفواحش والمنكرات.
الحياء والإيمان: علاقة جوهرية
ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الحياء والإيمان في أحاديث عديدة، من أبرزها قوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان». هذا الربط يوضح أن الحياء ليس خُلقًا اجتماعيًا فحسب، بل هو مكوّن رئيسي من مكوّنات العقيدة.
ومن دلائل هذه العلاقة الجوهرية أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن فقدان الحياء يؤدي إلى الانهيار الأخلاقي، فقال: «إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت»، أي أن من لا يملك حياءً لا يردعه وازع داخلي عن الوقوع في المعاصي والمنكرات، وبالتالي يصبح خطرًا على نفسه ومجتمعه. ويفهم من هذا الحديث أن الحياء صمّام أمان يحمي الإنسان من الانزلاق، ويضبط سلوكه على منهج الاستقامة.
أنواع الحياء في الإسلام
الحياء في الإسلام له أشكال متعددة، منها ما يتعلق بالعلاقة بين العبد وربه، ومنها ما يتصل بعلاقته بالناس، ومنها ما ينبع من ضميره الداخلي.
1. الحياء من الله
هو أرقى أنواع الحياء، وينبع من معرفة العبد بعظمة الله، وإدراكه أنه مطّلع على خفايا الأمور، فيستحي العبد من الله أن يراه حيث نهاه، أو يفتقده حيث أمره. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حق الحياء»، قالوا: “إنا نستحيي من الله يا رسول الله”، قال: «ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء».
2. الحياء من الناس
وهو أن يستحي العبد من إظهار ما يُذم عليه من قول أو فعل أمام الناس، ويحمله هذا الحياء على التحفظ في أقواله وأفعاله، ويجعله يتوخى الحذر من الإساءة إلى الآخرين أو مخالفة الآداب العامة. ولا يعني هذا النوع من الحياء الانزواء أو عدم الجرأة في قول الحق، بل هو انضباط في الأخلاق والسلوك، يميز صاحبه بالرزانة والحكمة.
3. الحياء من النفس
وهو أن يستحي العبد من نفسه أن يقع في الخطيئة، أو يتلبس بما يشينه في خلوته، فيُربي نفسه على محاسبة الذات، ويغرس فيها الشعور بالمراقبة الذاتية. هذا النوع من الحياء هو أساس الاستقامة في السّر والعلن، لأنه يجعل الإنسان يتعامل مع نفسه بشفافية ونزاهة.
الحياء عند الأنبياء والصالحين
تتجلى قيمة الحياء في سِيَر الأنبياء والصالحين، فقد ورد أن النبي موسى عليه السلام كان شديد الحياء، حتى قال الله عز وجل عنه: ﴿فجاءته إحداهما تمشي على استحياء﴾، وهذا يدل على أن الحياء صفة محمودة حتى في النساء الصالحات، كما كان حال ابنة شعيب التي عرضت نفسها على موسى بحياء وأدب.
أما رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان أعظم الناس حياءً، فقد وصفه الصحابة بقولهم: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، وإذا كره شيئًا عرف في وجهه». وكان حياؤه لا يمنعه من قول الحق، ولا من مواجهة المخطئين، لكنه كان يختار ألطف الأساليب وأنبل الطرق في نصحهم، احترامًا لمشاعرهم وتقديرًا لكرامتهم.
أثر الحياء في بناء المجتمع
الحياء لا يقتصر أثره على الفرد فحسب، بل يمتد ليشمل المجتمع بأسره، فيسهم في بناء بيئة أخلاقية يسودها الاحترام والتقدير المتبادل بين الأفراد. في المجتمع الذي يسوده الحياء، تقل مظاهر الانحراف، وتضعف دوافع الجريمة، وينتشر فيه الوقار والحياء في السلوك العام. كما أن الحياء يحفّز المرأة على التزام الحشمة والستر، ويدفع الرجل إلى مراعاة الأدب في نظره وكلامه.
غياب الحياء يقود إلى تفكك القيم، وظهور الفحشاء، وتغليب المصالح الشخصية على المبادئ. وهذا ما نلاحظه في المجتمعات التي تبتعد عن دينها، حيث أصبحت الجرأة على ارتكاب المعاصي والتباهي بها أمرًا معتادًا، وتحوّل الحياء إلى صفة تُنعت بالضعف أو التخلف، في حين أنه في الحقيقة مظهر من مظاهر النضج الإيماني والتزكية النفسية.
الحياء في التربية الإسلامية
الحياء عنصر محوري في التربية الإسلامية، إذ يجب أن يُغرس في نفوس الأبناء منذ نعومة أظفارهم، سواء من خلال التوجيه المباشر، أو من خلال القدوة الحسنة. فعندما يرى الطفل والديه يتحليان بالحياء في حديثهما ولباسهما وسلوكهما، فإنه يتشرب هذه القيم تلقائيًا.
وقد دعا الإسلام إلى تعليم الأطفال الحياء، وجعل من مظاهره ما يتعلق بالعفة والستر وغض البصر والابتعاد عن الألفاظ البذيئة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلم أصحابه الحياء كما يعلمهم السورة من القرآن، وهذا يدل على مدى أهمية هذا الخلق في الإسلام.
الفرق بين الحياء والضعف
من المهم التفريق بين الحياء والضعف أو الخجل المرضي. فالحياء في الإسلام لا يعني الانطواء أو العجز عن التعبير، بل هو خلق يرافقه الشجاعة والأدب في الوقت نفسه. الحياء يمنع صاحبه من الكذب، لكنه لا يمنعه من قول الحقيقة بأدب. يمنعه من الوقاحة، لكنه لا يمنعه من الوقوف مع الحق.
أما الخجل السلبي، فهو انطواء ناتج عن ضعف في الشخصية، وخوف من مواجهة المجتمع، وهو ما لا يدعو إليه الإسلام. فالمؤمن قوي في شخصيته، راسخ في مبادئه، لكنه يتحلى بالحياء الذي يزين أخلاقه ويوجه سلوكه.
أمثلة تطبيقية للحياء في حياة المسلم
يمتد أثر الحياء إلى كافة مناحي الحياة اليومية للمسلم، ويظهر في:
| المجال | مظهر الحياء |
|---|---|
| الحياء في العبادة | أن يُخلص العبد عمله لله، ويستحي أن يقدّم عبادة ناقصة أو ريائية |
| الحياء في الأسرة | أن يحافظ الزوجان على الاحترام المتبادل، ويبتعدان عن كشف العورات أو التلفظ بالبذاءة |
| الحياء في الكلام | أن يتجنب المسلم الغيبة والنميمة والكذب والفُحش |
| الحياء في المظهر | أن يلتزم بالحشمة في اللباس والهيئة |
| الحياء في العمل | أن يؤدي وظيفته بأمانة، ويستحي من التقصير أو الإهمال |
الحياء والنهضة الحضارية
الحياء ليس مجرد خُلق فردي، بل هو ركيزة في بناء النهضة الأخلاقية والحضارية للأمة. فالمجتمعات التي يتحلى أفرادها بالحياء، تكون أكثر استقرارًا وانضباطًا وأقرب إلى العدل، وتبتعد عن الفساد والفسق والظلم. كما أن الحياء في الحكم والسياسة يؤدي إلى مراعاة حقوق الناس، والبعد عن الطغيان والجبروت، بينما الحياء في العلم والمعرفة يدفع إلى التواضع وعدم التكبر على التعلم.
ولذلك، فإن الحياء ليس فقط خُلقًا يُطلب في الحياة الشخصية، بل هو عنصر من عناصر البنية الأخلاقية التي تبنى عليها الحضارات. وغيابه من المجتمعات يؤدي إلى انهيار المعايير، وتراجع القيم، وتفكك روابط الترابط الاجتماعي.
الخاتمة
الحياء شعبة من الإيمان، وهو علامة على طهارة القلب، وصفاء السريرة، ونقاء السلوك. وهو خلق لا يستغني عنه مسلم صادق، لأنه الحارس الداخلي الذي يحول بينه وبين الوقوع في المحرمات. وقد حرص الإسلام على غرس هذا الخلق في نفوس المسلمين منذ الصغر، لأنه أساس الفضائل، وبوابة إلى سائر الأخلاق الحميدة. ولا يمكن للأمة أن ترتقي دون أن تستعيد الحياء كقيمة أصيلة في حياتها، وموجهًا لسلوك أفرادها في السر والعلانية.
المصادر والمراجع:
-
صحيح البخاري، كتاب الإيمان.
-
الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن.
