الحكمة من بر الوالدين
البر بالوالدين يعد من أعظم القيم والمفاهيم التي حث عليها الدين الإسلامي، وجاءت النصوص الشرعية التي تضمنها القرآن الكريم والسنة النبوية لتأكيد مكانة الوالدين وضرورة الاحترام والطاعة لهما. يعد بر الوالدين من أهم أسباب رضا الله عز وجل، كما أن فيه حماية للمجتمع من الفساد والتدهور الأخلاقي. في هذا المقال، نتناول الحكمة العميقة التي تشتمل عليها هذه الفضيلة، مع تسليط الضوء على الآثار المترتبة على البر بالوالدين، سواء في الدنيا أو الآخرة.
1. البر بالوالدين في القرآن الكريم
لقد وردت العديد من الآيات الكريمة التي تحث على بر الوالدين، ومنها قوله تعالى في سورة الإسراء:
“وَقَضى رَبُّكَ أَلا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا”
توضح هذه الآية أن الإحسان إلى الوالدين، خاصة عندما يبلغان من العمر سنًا متقدمة، يعتبر من أعظم الأعمال التي يحبها الله. كما أن النهي عن قول “أفٍّ” لهما، وهو أدنى درجات التعبير عن الاستياء، يعكس مقدار الإحترام الذي يجب أن يكون متوافرًا عند التعامل مع الوالدين في جميع الظروف.
في آية أخرى، يقول الله تعالى:
“وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ”
هذه الآية تبيّن لنا الرحمة والنعمة التي منحها الله للوالدين، خاصة الأم، حينما تتحمل عناء الحمل والولادة. وفيها إشارة واضحة إلى أن البر بالوالدين هو من الشكر لله على هذه النعم العظيمة.
2. البر بالوالدين في السنة النبوية
لقد جاء في الحديث النبوي الشريف، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
“يا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّ الأعمالِ أقْرَبُ إلى الجَنَّةِ؟ قالَ: إيمانُ اللَّهِ ورسولِهِ، قُلتُ: وماذا يا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قالَ: جهادٌ في سَبيلِ اللَّهِ، قُلتُ: وماذا يا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قالَ: برُّ الوالِدَيْنِ”
في هذا الحديث يظهر أن بر الوالدين يعد من أعظم الأعمال التي تقرب المسلم إلى الجنة، بل هو عمل يشترك في مرتبة عظيمة بجانب الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله. هذا يؤكد أن للبر بالوالدين مكانة فريدة لا تتأثر بأي ظروف أو تغييرات.
في حديث آخر، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
“رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة.”
هذا الحديث يدل على أهمية بر الوالدين، فهو سبب أساسي لدخول الجنة، وإذا قصر الإنسان في بر والديه، فقد حرم نفسه من هذه النعمة العظيمة.
3. حكمة بر الوالدين في الإسلام
من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، نجد أن الحكمة العميقة من بر الوالدين تتجلى في عدة جوانب، أهمها:
3.1. تحقيق رضا الله عز وجل
أول وأهم حكمة في بر الوالدين هي تحقيق رضا الله سبحانه وتعالى. فقد ربط الله بين طاعته وطاعة الوالدين، مما يدل على أن بر الوالدين هو من أعظم القربات إلى الله. فالله سبحانه وتعالى يطابق بين بر الوالدين وبره، مما يعكس حقيقة أن الله يولي هذه العلاقة أهمية خاصة.
3.2. حفظ الأسرة والمجتمع
إن بر الوالدين يعزز الروابط الأسرية ويقويها، مما ينعكس بشكل إيجابي على المجتمع ككل. فعندما يكون الأبناء بارين بوالديهم، يتحقق توازن اجتماعي وأخلاقي، ويسهم ذلك في بناء مجتمع يملؤه التعاون والاحترام المتبادل. في المقابل، إذا اهمل الأبناء والديهم، يمكن أن يحدث التفكك الأسري الذي يؤدي إلى تدهور العلاقات الاجتماعية.
3.3. تعزيز القيم الإنسانية
البر بالوالدين يمثل تجسيدًا حيًا لمفهوم الإحسان والعطاء. فالإحسان في الإسلام لا يقتصر على أفراد معينين، بل يشمل الجميع. وفي هذه الحالة، يتوجه البر والاحترام إلى من كان له الفضل الأول في وجودنا ورعايتنا. من خلال هذه الممارسة، يُرسخ في النفس قيمة الإحسان بشكل عام، ما يعود بالفائدة على الفرد والمجتمع.
3.4. تعزيز الروح الإنسانية
إن البر بالوالدين يعزز من روح الحب والرأفة والرحمة في الإنسان. فعندما يظهر الفرد المحبة والاحترام لوالديه، فإنه يشعر بتقدير القيم الإنسانية النبيلة مثل الصبر، التضحية، والعطاء بلا مقابل. هذه القيم تُساهم في تكوين شخصية فردية متوازنة.
3.5. حماية الأبناء من الوقوع في الخطأ
من خلال علاقة البر والاحترام مع الوالدين، يتمكن الأبناء من الاستفادة من خبرات الآباء وأمهاتهم في الحياة. فالأب والأم يمثلان مصدرًا رئيسيًا للحكمة والمعرفة التي تساهم في توجيه الأبناء نحو القرارات الصائبة في حياتهم.
4. بر الوالدين بعد وفاتهما
من الحكمة العميقة في بر الوالدين في الإسلام أن البر لا يتوقف بعد وفاتهما. فقد جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:
“إن من أبر البر صلة الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلَّى”
هذا الحديث يشير إلى أهمية الاستمرار في صلة الرحم بعد موت الوالدين، من خلال الدعاء لهما، والصدقة الجارية عنهما، والإحسان إلى من كانوا مقربين منهما. هذه الأمور تعتبر من أرقى درجات البر التي يمكن أن يقدمها الأبناء بعد وفاة الوالدين.
5. الآثار الروحية والنفسية للبر بالوالدين
إن البر بالوالدين لا يقتصر على الفوائد المادية أو الاجتماعية فحسب، بل له آثار روحية ونفسية كبيرة على الفرد. عندما يكون الشخص بارًا بوالديه، يشعر بالسلام الداخلي، والرضا النفسي، كما يزيد شعوره بالقرب من الله ورغبة في تحسين علاقته به.
بالإضافة إلى ذلك، البر بالوالدين يساهم في تعزيز الثقة بالنفس، ويقوي من شخصية الإنسان من خلال شعوره بالمسؤولية تجاه من أحسنوا إليه طوال حياته. إن هذه العلاقة تسهم في تشكيل عقلية متوازنة تقدر قيمة العطاء وتعمل من أجل مصلحة الآخرين.
6. خاتمة
لقد جاء الإسلام ليعزز قيمة البر بالوالدين ويرسخها في قلب المؤمن. فهو ليس مجرد عمل ظاهر من الخارج، بل هو شعور داخلي نابض ينبع من فطرة الإنسان السليمة، وهو أحد أسمى درجات العبادة التي يحقق بها المسلم رضا الله سبحانه وتعالى. ومن خلال البر بالوالدين، يحقق الفرد توازنه الشخصي، ويعزز علاقاته الأسرية، ويُساهم في بناء مجتمع أكثر تضامنًا ورحمة.
