الحكمة من الإسراء والمعراج

الحكمة من معجزة الإسراء والمعراج

معجزة الإسراء والمعراج تُعد من أعظم المعجزات التي خُصَّ بها النبي محمد ﷺ، وهي معجزة جمعت بين الإعجاز الحسي والمعنوي، الزماني والمكاني، الروحي والجسدي، وخلّدت في كتب السيرة والتفسير والحديث والفقه والعقيدة لما لها من أهمية عظيمة في بيان علو شأن النبي ﷺ ومكانته عند الله تعالى، ولِما فيها من إشارات عظيمة ودلالات باهرة تخترق حدود العقل البشري وتتجاوز قوانين الطبيعة المادية.

وقعت هذه المعجزة في لحظة حرجة من السيرة النبوية، بين عام الحزن الذي فقد فيه النبي ﷺ زوجته خديجة وعمّه أبا طالب، وبين بيعة العقبة التي مهّدت لهجرة المسلمين إلى المدينة. فجاءت هذه الرحلة السماوية كتكريم وتثبيت ومواساة للنبي ﷺ في وقت اشتدّت فيه عليه المحن والشدائد.

في هذا المقال، نستعرض بتوسّع جوانب الحكمة من هذه المعجزة الإلهية، من جوانبها التربوية والإيمانية، والدعوية، والروحية، والكونية، في تحليل علمي وروحي معمّق يتجاوز الطرح التقليدي، ويبرز عظمة الحدث في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية المطهّرة.

أولًا: التثبيت النفسي للنبي محمد ﷺ

من أوضح الحكم في الإسراء والمعراج أنها جاءت تثبيتًا للنبي ﷺ بعد ما تعرّض له من مصاعب وآلام، فقد كانت المرحلة المكية من الدعوة الإسلامية شديدة الوطأة على النبي وصحبه، واجهوا فيها صنوف الأذى والاستهزاء والصدّ، لا سيما بعد وفاة خديجة – السند الداخلي – وأبي طالب – السند الخارجي السياسي والاجتماعي. في هذا الظرف العصيب جاءت المعجزة لتدلّ النبي ﷺ على أن الله لم يتخلَّ عنه، وأنه في كنف رعاية إلهية تامة.

فالانتقال بالنبي ﷺ من مكة إلى القدس ثم إلى السماوات العلا، هو تعبير إلهي عن رفعته وقيمته ومكانته عند الله، كما أنه تذكير له أن هذه الدنيا بما فيها من اضطهاد ومشقة ما هي إلا مرحلة عابرة في طريق الرسالة.

ثانيًا: بيان منزلة النبي محمد ﷺ بين الأنبياء

من المحطات المحورية في المعراج صلاة النبي ﷺ إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى. وهذا الحدث ليس مجرد مشهد رمزي، بل هو إعلان إلهي عن أن محمدًا ﷺ هو خاتم الأنبياء، وأعظمهم منزلة، وأنه وارث رسالة التوحيد التي جاءت بها كل الرسل قبله.

إنّ اجتماع الأنبياء في المسجد الأقصى للإقرار بإمامة محمد ﷺ هو إعلان واضح أن الرسالة المحمدية هي امتداد لرسالات التوحيد، وأنها تُوَحِّد خطّ الرسالات السماوية تحت قيادة النبي الخاتم.

ثالثًا: ربط الأرض بالسماء والزمان بالمكان

تمثل هذه الرحلة المباركة معجزة تخترق قوانين المادة والزمن، وتربط بين العالمين العلوي والسفلي، فقد سُرِيَ بالنبي ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماوات العلى في رحلة تستغرق بالأسباب المادية ملايين السنين، ولكنها تمت في لحظات معدودة، لأن القوانين الإلهية لا تقف عند حدود المادة والزمان.

وهذه المعجزة تعكس لنا بعدًا عظيمًا في التصور الإسلامي للكون، إذ تزيل الحواجز بين الزمان والمكان، بين العوالم العلوية والسفلية، وتُرِي الإنسان أن الله عز وجل ليس محصورًا في القوانين التي يعرفها البشر.

رابعًا: تكريم المسجد الأقصى وتثبيت مكانته

يكتسب المسجد الأقصى أهمية مركزية في عقيدة المسلمين لكونه كان قبلة المسلمين الأولى، ولأنّه هو المكان الذي أُسريَ بالنبي ﷺ إليه، ومنه بدأ المعراج إلى السماء. فالمسجد الأقصى هو نقطة الالتقاء بين النبوّات، وهو مركز الربط بين الأرض والسماء.

وهذا التكريم للمسجد الأقصى يُعد من دلائل اهتمام الإسلام بالمقدسات، وتثبيت حق المسلمين في هذا المكان المبارك، ودعوة دائمة إلى التعلق به وحمايته ورعايته.

خامسًا: تكريم الإنسان عبر النبي محمد ﷺ

إن رحلة المعراج هي أيضًا تكريم للإنسان من خلال تكريم نبيه المصطفى ﷺ، فهي تبيّن أن هذا الكائن البشري يمكنه، بإيمانه وتعلّقه بالله، أن يترقّى إلى مراتب عالية في القرب من الله.

النبي محمد ﷺ مثّل الإنسان الكامل في هذه الرحلة، وارتقى إلى مقامٍ لم يبلغه ملك مقرّب ولا نبي مرسل، حتى وصل إلى سدرة المنتهى، حيث قال جبريل عليه السلام: “لو تقدّمت لاحترقت”، دلالة على أن النبي ﷺ وحده من واصل الرحلة إلى حضرة القدس الإلهي، وهذا أسمى تكريم للإنسانية جمعاء.

سادسًا: فرض الصلاة دليل على مركزيتها

من أعظم ما وقع في هذه الرحلة هو فرض الصلاة، ولم تُفرض كما فُرضت سائر العبادات عبر الوحي الأرضي، بل فُرضت مباشرة من فوق السماوات السبع، مما يدلّ على عظم شأنها.

فرض الصلاة في هذا السياق الإعجازي يبيّن أنها معراج المؤمن، وأنها الصلة الدائمة بين العبد وربه، وتعد تجسيدًا يوميًا لرحلة القرب من الله. وكما صعد النبي ﷺ إلى السماء في المعراج، يصعد المؤمن بروحه إلى ربّه في كل صلاة.

سابعًا: عرض مشاهد من عالم الغيب

من مظاهر الإعجاز في المعراج أنّ النبي ﷺ اطّلع على أمور الغيب، فرأى الجنة والنار، واطلع على أحوال أقوام يعذّبون نتيجة أفعالهم في الدنيا، وهذا يبين أن المعجزة لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل كانت عرضًا واقعيًا لعالم الغيب.

وهذا العرض ليس فقط تشريفًا للنبي ﷺ، وإنما هو أيضًا درس للأمة، بأن الجزاء واقع لا محالة، وأن من يعمل خيرًا يجده، ومن يعمل شرًّا يجده، وهي دعوة للمراجعة والتوبة والالتزام بقيم الإسلام.

ثامنًا: ترسيخ الإيمان بالغيب والابتلاء به

حادثة الإسراء والمعراج كانت اختبارًا لقلوب المؤمنين، فقد كذّب بها الكثير من الناس ممن لم يستطيعوا تصوّرها بعقولهم المادية، وارتدّ بعض الضعفاء، لكنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه صدّق بها من دون تردد، وقال: “إن كان قال فقد صدق”.

هذا الحدث رسّخ أن الإيمان بالغيب أصلٌ من أصول العقيدة الإسلامية، وأنه لا بد للإنسان المؤمن أن يعلو بإيمانه فوق حسابات العقل البشري المحدود، لأن الله قادر على كل شيء.

تاسعًا: ترسيخ مبدأ التسليم لأوامر الله

إحدى الحكم العظيمة من فرض الصلاة في المعراج أنها فُرضت أولًا خمسين صلاة، ثم خُففت إلى خمس بعد مراجعة النبي ﷺ لربه، ومع ذلك تبقى في الأجر كأنها خمسون، وهذا يعلّم الأمة مبدأ الطاعة والتسليم والرضا، فلو أراد الله أن يفرض خمسين لصارت، لكنه أراد التخفيف رحمةً بعباده، وبقي الأجر مضاعفًا.

وهذه الرسالة العميقة تُظهر عظمة رحمة الله، وتُعلم الأمة كيف تتعامل مع أوامر الله بالإذعان والتسليم، دون جدل أو تردد.

عاشرًا: تحفيز المؤمنين للثبات على الدعوة

الإسراء والمعراج لم تكن فقط تثبيتًا للنبي ﷺ، بل كانت رسالة لكل من آمن به، بأنّ طريق الدعوة قد يكون مليئًا بالتحديات والآلام، لكن في نهايته رفعة ونصر ورضا من الله.

هذه الرسالة زرعت في قلوب الصحابة معاني الصبر والثقة في الله واليقين بأن النصر آتٍ مهما طال الطريق، ومهما تعاظمت الابتلاءات.

الجدول التالي يلخص أهم الحكم والدلالات المستفادة من معجزة الإسراء والمعراج:

المصادر والمراجع:

1. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الثالث.

2. الطبري، تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن.