الحسابات المهجورة في السوشيال ميديا

الحسابات المهجورة في الشبكات الاجتماعية: ظاهرة رقمية عابرة أم إرث رقمي مهمل؟

في عصر أصبحت فيه الشبكات الاجتماعية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للمليارات حول العالم، يبرز سؤال محوري يتعلق بمآل الحسابات الرقمية التي لم تعد تُستخدم: الحسابات المهجورة. هذه الظاهرة، التي قد تبدو للوهلة الأولى غير ذات أهمية، تحمل في طياتها أبعاداً تقنية، اجتماعية، وأمنية عميقة، وتستحق وقفة تحليلية دقيقة لفهم أسبابها، تداعياتها، وكيفية تعامل المنصات الرقمية معها.

تتزايد أعداد الحسابات المهجورة عاماً بعد عام، وتتنوع أسباب تركها، بين الوفاة، أو فقدان كلمة المرور، أو الملل، أو الانتقال إلى منصة أخرى. وبالرغم من أن الحساب المهجور قد يبدو للعيان ساكناً وغير مؤثر، إلا أن وجوده يثير إشكالات قانونية وتقنية وأخلاقية تستدعي اهتماماً خاصاً.

تعريف الحسابات المهجورة

الحساب المهجور هو حساب مستخدم في شبكة اجتماعية لم يعد يُستخدم لفترة زمنية طويلة، تتفاوت بحسب تعريف كل منصة. بعض المنصات تعتبر الحساب مهجوراً بعد مرور ستة أشهر دون نشاط، بينما تعتمد منصات أخرى فترة تصل إلى عامين أو أكثر. ويشمل هذا الغياب التوقف عن النشر أو التفاعل أو تسجيل الدخول.

الأسباب الرئيسية لهجر الحسابات

1. الوفاة
   
   تُعد الوفاة أحد أبرز الأسباب لهجر الحسابات. لا يتمكن ورثة المتوفى غالباً من الوصول إلى الحساب بسبب غياب بيانات الدخول، أو لعدم وجود وصية رقمية. وتتحول هذه الحسابات إلى ما يُعرف بالإرث الرقمي، وهي قضية لم تُحسم بعد بشكل قانوني في العديد من الدول.

2. نسيان كلمة المرور وعدم استردادها
   
   في ظل تعدد الحسابات وكثرة المنصات، كثيراً ما ينسى المستخدمون بيانات الدخول لحساباتهم، خاصة إذا لم يكونوا قد فعّلوا خاصية استعادة كلمة المرور أو لم يربطوا حساباتهم بالبريد الإلكتروني أو رقم الهاتف.

3. الانتقال إلى منصات جديدة
   
   مع ظهور منصات تواصل جديدة بميزات أكثر جاذبية، يهاجر المستخدمون من المنصات القديمة تاركين وراءهم حساباتهم. هذا ما حدث مثلاً مع انتقال المستخدمين من “MySpace” إلى “Facebook”، ومن ثم إلى “Instagram” و”TikTok”.

4. الإرهاق الرقمي والرغبة في الانفصال
   
   في بيئة رقمية مشبعة بالمحتوى والمشتتات، يختار بعض المستخدمين الانفصال عن الشبكات الاجتماعية لفترات طويلة أو إلى الأبد، دون حذف حساباتهم.

5. الملل أو التغيير في الاهتمامات
   
   يتغير الإنسان وتتغير اهتماماته، وهذا قد يدفعه لترك حساباته التي كانت نشطة يوماً ما، خصوصاً تلك التي أنشأها خلال مراحل عمرية مختلفة.

الأبعاد التقنية للحسابات المهجورة

من وجهة نظر تقنية، تمثل الحسابات المهجورة عبئاً على خوادم الشركات المستضيفة. إذ تشغل هذه الحسابات حيّزاً في قواعد البيانات، وتستهلك مساحة تخزين حتى وإن كانت خاملة. بعض المنصات، مثل “Yahoo”، قامت بالفعل بإلغاء الحسابات غير النشطة بعد فترة زمنية محددة لتوفير الموارد.

كما أن هذه الحسابات، في كثير من الأحيان، قد تكون عرضة للاختراق. فغياب المستخدم عنها يجعل من الصعب عليه ملاحظة أي نشاط غير معتاد. يستخدم القراصنة هذه الحسابات لاختراق الشبكات الاجتماعية ونشر الروابط الخبيثة أو الرسائل الدعائية دون أن يُلاحظوا.

الأبعاد الاجتماعية والنفسية

ترتبط بعض الحسابات المهجورة بمشاعر قوية، خاصة إذا كانت تعود لأشخاص متوفين. فبالنسبة لذويهم، تشكل هذه الحسابات نوعاً من “الذاكرة الرقمية” التي تحفظ صورهم، كتاباتهم، وتعليقاتهم، لتبقى بمثابة أرشيف إنساني ثمين. وقد تخلق هذه الظاهرة نوعاً من “الحياة الرقمية بعد الموت”، حيث يظل الشخص حاضراً في الفضاء الرقمي رغم وفاته.

في الوقت ذاته، قد يشعر البعض بالانزعاج من بقاء هذه الحسابات ظاهرة للعلن، مما يفتح باب النقاش حول احترام خصوصية المتوفين وحقوق ذويهم في إغلاق أو تخليد هذه الحسابات.

الأبعاد القانونية والأخلاقية

من أبرز التحديات المرتبطة بالحسابات المهجورة هي غياب التشريعات الواضحة بشأنها. فمعظم القوانين لم تلحق بعد بركب الثورة الرقمية، وتبقى قضية من يرث البيانات الرقمية للمتوفى غامضة. هل تنتقل إلى الورثة؟ أم تبقى ملكاً للمنصة؟ وهل من حق الأهل طلب حذف الحساب أو تحويله إلى صفحة تذكارية؟

تتباين سياسات الشركات الكبرى في هذا المجال، فمثلاً:

• Facebook تتيح تحويل حساب المتوفى إلى صفحة تذكارية بعد تقديم إثبات الوفاة.

• Google تتيح تفعيل خيار “مدير الحساب غير النشط”، لتحديد ماذا سيحدث للحساب في حال توقف صاحبه عن استخدامه.

• Instagram تسمح بتحويل الحساب إلى صفحة تخليدية بناءً على طلب الأقارب.

ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات لا تغني عن الحاجة إلى تشريعات قانونية واضحة تُنظم حقوق الورثة وتحدد واجبات المنصات في التعامل مع هذا النوع من الحسابات.

الحسابات المهجورة وتأثيرها على تحليل البيانات

تلعب البيانات المستخرجة من الشبكات الاجتماعية دوراً محورياً في البحوث الأكاديمية، التسويق الرقمي، تطوير الذكاء الاصطناعي، وتحليل الرأي العام. لكن وجود عدد كبير من الحسابات المهجورة يشكل انحرافاً إحصائياً يُؤثر على دقة التحليل، ويعطي صورة مشوشة عن سلوك المستخدمين الفعليين.

فعلى سبيل المثال، عند تحليل حجم التفاعل مع منشور معين، قد يبدو عدد المتابعين كبيراً، لكنه في الحقيقة يتضمن نسبة عالية من الحسابات غير النشطة. وهذا يشكل عائقاً أمام الشركات التي تعتمد على التحليل الدقيق لتوجيه استراتيجياتها التسويقية.

استراتيجيات المنصات للتعامل مع الحسابات المهجورة

عملت بعض المنصات الاجتماعية على تطوير سياسات وآليات تقنية للتعامل مع الحسابات غير النشطة، ومن بينها:

تهدف هذه السياسات إلى تحقيق توازن بين احترام المستخدم واحتياجات البنية التحتية والمنطق التجاري.

التأثير على العلامات التجارية والمحتوى الرقمي

تُعد الحسابات المهجورة تحدياً خاصاً للعلامات التجارية، خصوصاً تلك التي تم إنشاؤها في بدايات استخدام الشركات لوسائل التواصل الاجتماعي. فقد يتغير اسم الشركة، أو يتم إيقاف أحد فروعها، وتُترك الحسابات دون حذف أو تحديث. هذا يُعطي انطباعاً سلبياً عن العلامة ويؤثر على ثقة العملاء.

كما أن الحسابات المهجورة التي تحوي محتوى قيّماً قد تُفقد تدريجياً من ذاكرة الإنترنت، خصوصاً إن لم يتم أرشفتها أو ربطها بمنصات الأرشيف الرقمي. وهذا يفتح النقاش حول أهمية الحفظ الرقمي المستدام في زمن متغير سريعاً.

الجوانب الأمنية: الحسابات المهجورة كأدوات للهجمات السيبرانية

تشكّل الحسابات المهجورة ثغرة أمنية خطيرة. إذ يمكن للمخترقين إعادة تفعيل هذه الحسابات أو استغلالها في إرسال الرسائل المزعجة (Spam)، أو تنفيذ هجمات التصيد الإلكتروني (Phishing). وقد يتم استخدام الحسابات المهجورة لخلق تفاعل وهمي (Fake Engagement) لخداع المتابعين حول شعبية منشور أو حملة دعائية.

في السنوات الأخيرة، لوحظ أن بعض الهجمات السيبرانية استهدفت حسابات قديمة كانت تستخدم عناوين بريد إلكتروني لم تعد قيد الاستخدام، مما سمح للمخترقين بإعادة تفعيلها والتحكم بها دون علم أصحابها الأصليين.

الحسابات المهجورة في عصر الذكاء الاصطناعي

مع توسع استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل المحتوى، والتفاعل، وتوليد النصوص، تصبح الحسابات المهجورة نقطة خلل في جودة البيانات المستخدمة في تدريب النماذج. فغياب التفاعل أو استخدام تعبيرات قديمة يعكس صورة غير دقيقة عن السياقات الحديثة.

في المقابل، هناك من ينظر إلى الحسابات المهجورة كمصدر غني للبيانات التاريخية التي تساعد في فهم تطور اللغة، وتغير الأنماط الثقافية، وتحولات الذوق العام عبر الزمن.

الخلاصة

الحسابات المهجورة ليست مجرد فضلات رقمية في الفضاء الإلكتروني، بل تمثل بُعداً مركباً من التفاعلات التقنية، النفسية، الاجتماعية، والقانونية. تعكس هذه الظاهرة طبيعة الإنسان المتغيرة، والانتقال الدائم بين المنصات، وضعف البنية التشريعية لمواكبة التطورات الرقمية. كما تبرز الحاجة إلى سياسات أكثر مرونة وتقدماً، تضمن احترام المستخدم وبياناته، وتوازن بين الحق في النسيان وأهمية الحفظ الرقمي.

المراجع

1. Google Account Inactivity Policy. https://support.google.com/accounts/answer/6387301

2. Facebook Help Center – Memorialized Accounts. https://www.facebook.com/help/103897939701143