هل نستطيع أن نحب بعضنا على عِلاتنا؟
في عالم تهيمن عليه معايير الكمال وتُغذّى فيه صورة العلاقات المثالية من خلال الشاشات ومنصات التواصل الاجتماعي، يبرز سؤال وجودي وواقعي يحمل من العمق والصدق ما يجعلنا نتوقف طويلاً عنده: هل نستطيع أن نحب بعضنا على عِلاتنا؟ أي على نواقصنا، على اختلافاتنا، على ماضينا المثقل بالتجارب، وعلى صفاتنا التي لا تخضع لمقاييس الجمال أو المثالية؟ إن الحب، إذا ما تم تقليصه إلى معادلات سطحية أو صور منمقة، يفقد روحه الأصلية، بينما الحب الحقيقي، في جوهره، هو قبول الإنسان كما هو، لا كما نتمنى أن يكون.
مفهوم “العِلات” في سياق العلاقات الإنسانية
العِلات ليست فقط العيوب أو الأخطاء، بل تشمل الطيف الكامل للإنسانية بكل تناقضاتها: الطباع الصعبة، التجارب السابقة، الأوجاع التي لم تندمل، المعتقدات المتباينة، وحتى عادات الحياة اليومية التي قد تبدو بسيطة لكنها تؤثر في إيقاع العلاقة. هذا المفهوم يمثل تحدياً أمام من يسعى إلى علاقة أصيلة وصادقة، لأن المحبة على العِلات تعني تخلياً عن فكرة “النسخة المثالية” التي كثيراً ما يلهث وراءها الأفراد.
في القاموس النفسي والاجتماعي، يُعد تقبُّل الآخر أحد أعمق مستويات الحب. وهو لا يتحقق إلا عند توفر قدر كبير من النضج العاطفي والوعي الذاتي، فالمحب الذي يستطيع أن يرى جمالًا في النقص، ويشعر بالأمان وسط اختلاف، هو شخص تجاوز التصورات الرومانسية السطحية ووصل إلى جوهر الإنسانية.
الحب كفعل وقرار
المحبّة على العِلات ليست مجرد عاطفة عابرة أو انجذاب لحظي، بل هي فعل إرادي، قرار واعٍ يتخذه الإنسان كل يوم. حين يختار شخصٌ ما أن يحب الآخر رغم علمه المسبق بأن فيه زوايا مظلمة، فإن هذا الاختيار ليس ضعفاً، بل قوة عظيمة. لأن النظر بعين المحبة لشخص لم يتقن بعد كل فنون الحياة، ولم يتخلّص من أوجاعه، ولم يُصفِّ كل صراعاته، هو دليل على النضج وعمق الشعور.
ومما يثري هذا الفعل أن الحب لا يعني إنكار العِلات أو التغاضي عنها كلياً، بل الاعتراف بها والتعامل معها برفق وتفهُّم. إن الشريك الحقيقي لا يتغاضى عن العيوب، بل يدرك وجودها ويعرف كيف يتفاعل معها دون أن يختزل الآخر فيها.
المحبة المشروطة والحب المشوَّه
في مقابل الحب غير المشروط، الذي يقبل الآخر بصفاته الحميدة والسيئة، هناك حب مشروط يقوم على أساس التغيير أو التعديل. مثل هذا الحب يحمل في جوهره بذور الانهيار. عندما يقول أحدهم “أحبك إذا تركت هذه العادة”، أو “سأحبك أكثر إذا أصبحت أكثر شبهاً بفلان”، فإن الحب هنا يتلاشى ليحل مكانه نوع من الاستغلال أو الطموح لإعادة تشكيل الآخر وفق صورة خيالية.
المحبة المشروطة تؤدي إلى نوع من العنف العاطفي غير المُعلن، حيث يشعر أحد الطرفين بأنه غير كافٍ، أو بأنه يعيش تحت ضغط دائم لإثبات استحقاقه للحب. هذا النوع من الحب لا يعكس قبولاً بل يزرع الخوف والقلق، ويُحوّل العلاقة إلى ساحة صراع بين التوقعات والواقع.
العِلات كمصدر للنمو المشترك
في العلاقات الصحية، لا تكون العِلات عقبة، بل تصبح أرضاً خصبة للنمو. حين يحب شخصان بعضهما رغم النواقص، يتحول هذا الحب إلى محفّز لتطوّر شخصي وجماعي. فوجود شريك يقبل ضعفك، لا يعني أنه يشجعك على الاستسلام له، بل يمنحك الأمان الكافي لتواجهه وتعمل عليه.
العديد من الدراسات في علم النفس الإنساني تؤكد أن العلاقات المبنية على التفاهم والتقبُّل هي أكثر قدرة على الاستمرار والتطور. ووفقًا لعالمة النفس “كارول روجرز”، فإن “أحد أكبر عوامل التغيير في الإنسان هو أن يُحَب كما هو”. فالشعور بالقبول يحرر الإنسان من ثقل الدفاعات النفسية، ويفتح أمامه أبواباً للتغيير الإيجابي الطبيعي.
التوازن بين القبول والرغبة في التغيير
رغم أهمية تقبّل العِلات، إلا أن التحدّي الحقيقي يكمن في إيجاد توازن صحي بين القبول والرغبة في التغيير. فالحب الناضج لا يعني التراخي أو اللامبالاة بالعيوب التي قد تضر بالشخص نفسه أو بالآخرين، بل يتطلب تواصلاً صادقاً ورغبة مشتركة في التحسن دون إلغاء الهوية الفردية.
هذا التوازن هو ما يحمي العلاقة من السقوط في فخ التراكمات أو الاستياء المكتوم. فحين يستطيع كل طرف التعبير عن مشاعره إزاء سلوك معين، في مناخ من الأمان والدعم، يصبح التغيير فعلًا نابعاً من المحبة لا من الإكراه.
الصورة المثالية في الإعلام وتأثيرها على قبول العِلات
من أبرز العوائق التي تعرقل القدرة على الحب غير المشروط، هي الصورة الإعلامية المصقولة للعلاقات المثالية. الأفلام، المسلسلات، الإعلانات وحتى منشورات “الإنفلونسرز” تروج لحب خالٍ من الخلافات، حيث الطرفان دائماً جميلان، مبتسمان، متناغمان بشكل ساحر. هذا التصوير المزيف يُحدث فجوة بين التوقعات والواقع، ما يجعل الكثيرين يشعرون بالفشل أو بعدم الرضا إذا واجهوا خلافاً طبيعياً أو اكتشفوا نقصاً في شركائهم.
إن التخلص من هذه التوقعات هو خطوة جوهرية في طريق الحب الصادق. فالحب لا يحتاج إلى إضاءة مثالية أو سيناريو مدروس، بل يحتاج إلى صدق، تقبُّل، وأمان عاطفي.
أثر تقبُّل العِلات في الاستقرار النفسي
الاستقرار النفسي في العلاقات لا يأتي من انعدام المشكلات، بل من القدرة على التعايش مع الاختلافات والعثرات دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار التواصل أو اهتزاز المشاعر. عندما يشعر الإنسان بأنه محبوب رغم نواقصه، فإنه يكتسب شعوراً عميقاً بالأمان والثقة، ما ينعكس على كافة جوانب حياته.
ومن الناحية النفسية، يساهم هذا التقبُّل في تخفيف الضغوط، تقوية المناعة النفسية، وتعزيز الشعور بالهوية. فالفرد لا يعيش في حالة دفاع دائم أو سعي مرهق للكمال، بل يشعر بأنه كافٍ، محبوب، ومفهوم.
نماذج واقعية للحب على العِلات
في الحياة اليومية، تظهر لنا أمثلة حقيقية لأشخاص أحبوا بعضهم على الرغم من التحديات الكبيرة. زوجان يعيشان مع مرض مزمن، أو شخصان من خلفيتين ثقافيتين مختلفتين، أو شريكين يحملان جراحاً من الطفولة، لكنهما يختاران الحب والعمل عليه كل يوم. هذه النماذج، وإن لم تكن درامية، إلا أنها تحمل عمقاً إنسانياً يفوق الخيال، لأنها تُثبت أن المحبة الحقيقية لا تُقاس بالمثالية، بل بالقدرة على البقاء والدعم والتفهُّم في أحلك الظروف.
العِلات كجزء من الهوية الإنسانية
الإنسان، بطبيعته، كائن غير مكتمل. يحمل تناقضاته، يتعلم من فشله، ويصقل روحه بالخطأ والمحاولة. العِلات ليست عدواً للحب، بل هي ما يجعله أكثر واقعية وصدقاً. إن الحكايات الخالدة عن الحب لم تُخلّد لأن أبطالها كانوا مثاليين، بل لأنهم تجاوزوا معاً الألم والاختلاف، وتمسكوا ببعضهم رغم ما واجهوه.
إن فهم هذا العمق يحول العلاقات إلى تجارب إنسانية راقية، لا تسعى إلى محو العيب، بل إلى تجاوزه بالمحبة والرحمة. فالحب الذي يدوم هو ذاك الذي يرى الإنسان بوضوح، بكل ما فيه، ويقول له: “أنا معك رغم كل شيء”.
الخاتمة: الحب كمساحة إنسانية شاملة
في النهاية، لا يمكن اختزال الحب في مفاهيم سطحية أو معايير ثابتة. الحب القادر على احتواء العِلات هو أكثر أنواع الحب نضجاً وصدقاً. إنه الحب الذي يُبنى على الاحترام، التفاهم، الرغبة في النمو المشترك، والاستعداد لرؤية الآخر كما هو، لا كما نريده أن يكون. إن هذا النوع من الحب لا يحدث كثيراً، لكنه حين يتحقق، يكون كافياً لأن يصمد أمام كل عاصفة، لأنه يستند إلى الحقيقة، لا إلى الوهم.
المصادر:
-
Brené Brown, The Power of Vulnerability, TEDxHouston, 2010.
-
Carl Rogers, On Becoming a Person, Houghton Mifflin, 1961.
