في أواخر القرن العشرين، شهدت الأعمال التجارية العالمية تحولًا جذريًا تمحور حول مفهوم الجودة والإنتاجية، وكان من أبرز معالم هذا التحول ما عرف باسم “ثورة الجودة”. كتاب “الجودة أو لا شيء: الثورة في الأعمال العالمية” لمؤلفيه لويد دوينز وكلير كروفورد-ماسون هو واحد من الأعمال التي لعبت دورًا حيويًا في شرح هذا التحول وتأثيره على عالم الأعمال. هذا الكتاب الذي نُشر لأول مرة في ديسمبر 1992 عن دار نشر مارينر بوكس، يعكس بوضوح الجهود العالمية لإعادة تعريف معايير الجودة وتحسين الأداء في بيئات العمل المتنوعة.
تعود بدايات هذه الثورة إلى عام 1980، عندما أُذيع على قناة NBC التلفزيونية الوثائقية الشهيرة بعنوان “إذا كان بإمكان اليابان… فلماذا لا نستطيع نحن؟”، والتي كان لها الفضل في تعريف الجمهور الأمريكي بالعالم الخبير الدكتور دبليو. إدواردز ديمينغ. كان ديمينغ هو المحفز الرئيسي وراء انطلاقة هذه الثورة التي جعلت من الجودة والإدارة الفعالة ركيزة أساسية لنجاح الشركات في الأسواق العالمية. وقد سلطت الوثائقية الضوء على النمو الهائل الذي حققته اليابان بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة التزامها بمبادئ الجودة، مما أثار تساؤلات حول مدى إمكانية تطبيق هذه المبادئ في الشركات الأمريكية.
يعتبر كتاب “الجودة أو لا شيء” تأريخًا حيويًا لحركة الجودة الشاملة، ويشرح بأسلوب واضح وبسيط أهم المبادئ التي تتبناها هذه الحركة. يعتمد الكتاب على تحليل فلسفات وأفكار أربعة من كبار خبراء الجودة في العالم: دبليو. إدواردز ديمينغ، وفيليب كروسبي، وأرماند فيغنباوم، وجوزيف جوران. يقدم الكتاب لمحة مفصلة عن كيفية تشابه هذه النظريات في أسسها، وكذلك الاختلافات البارزة بينها، والتي يمكن أن توفر للقادة وصناع القرار رؤى متعددة حول كيفية تطبيق هذه الأفكار لتحسين أداء الشركات والمؤسسات.
دبليو. إدواردز ديمينغ: رائد الجودة
ديمينغ هو أحد الشخصيات البارزة التي لعبت دورًا كبيرًا في إعادة بناء اقتصاد اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تركزت أفكاره حول ضرورة التركيز على التحسين المستمر في عمليات الإنتاج ودمج العلم والإحصاء في قياس الأداء وتحليل العمليات. يرى ديمينغ أن الجودة ليست مجرد التزام بالمعايير فحسب، بل هي فلسفة شاملة تتطلب تعاونًا بين جميع أفراد المؤسسة لضمان تحسين العمليات والتفاعل مع متغيرات السوق بشكل فعّال.
فيليب كروسبي: الجودة تكلفة أقل
على عكس ديمينغ الذي ركز على التحسين المستمر، ركز كروسبي على فكرة أن الجودة هي تحقيق خلو العمليات من العيوب بشكل كامل، وأن تحقيق ذلك سيوفر في النهاية على الشركات التكاليف الناتجة عن تصحيح الأخطاء. وقد طور كروسبي مفهوم “الجودة المجانية”، وهو فكرة أن الاستثمار في الجودة منذ البداية يقلل من التكاليف المستقبلية التي يمكن أن تنتج عن أخطاء في المنتج أو الخدمة.
أرماند فيغنباوم: الجودة الشاملة
من جانبه، طرح أرماند فيغنباوم مفهوم “الجودة الشاملة” الذي يركز على إشراك جميع أفراد المؤسسة في تحسين الجودة. يؤكد فيغنباوم أن الجودة ليست مسؤولية قسم أو إدارة واحدة فقط، بل هي مسؤولية الجميع، بدءًا من الإدارة العليا وصولًا إلى العاملين في الخطوط الأمامية. يُعد فيغنباوم من أوائل من تحدثوا عن الجودة كعامل استراتيجي يمكن أن يؤثر على كل جانب من جوانب العمل التجاري.
جوزيف جوران: التخطيط للجودة
أما جوزيف جوران، فقد ركز في فلسفته على أهمية التخطيط المسبق للجودة كجزء أساسي من عملية الإدارة. يرى جوران أن الجودة تحتاج إلى تخطيط دقيق ومسبق يشمل تحديد الأهداف والمعايير، والعمل على تحقيق هذه الأهداف من خلال تنظيم العمليات وتحديد الموارد المطلوبة.
تداخل الأفكار وتطبيقاتها
على الرغم من أن لكل خبير من هؤلاء الأربعة فلسفته الخاصة حول الجودة، إلا أن “الجودة أو لا شيء” يوضح كيف تتداخل أفكارهم في بعض النقاط، خاصة في أهمية التزام القيادة بتوجيه ودعم مبادرات الجودة، وضرورة بناء ثقافة داخل المؤسسات تشجع على التحسين المستمر والتعلم من الأخطاء. يقدم الكتاب أدوات واستراتيجيات يمكن تطبيقها في مختلف المجالات الصناعية والخدمية، مما يجعله دليلًا مفيدًا للقادة والمديرين الذين يسعون إلى تعزيز أداء شركاتهم عبر تحسين الجودة.
الأثر على الأعمال العالمية
مع تبني العديد من الشركات حول العالم لمبادئ الجودة الشاملة التي تناولها الكتاب، شهدنا تحسنًا ملحوظًا في الأداء والتنافسية. إن توظيف مفاهيم مثل “عدم العيوب” و”التحسين المستمر” قد أصبح جزءًا لا يتجزأ من نجاح العديد من المؤسسات العالمية اليوم. يبرز الكتاب أيضًا كيف تمكنت اليابان من تحقيق نجاحات اقتصادية مبهرة عبر تبني هذه المفاهيم، مما دفع العديد من الشركات الأمريكية والغربية إلى إعادة تقييم سياساتها الإنتاجية والتجارية.
خاتمة
يعتبر كتاب “الجودة أو لا شيء” مرجعًا هامًا لفهم تاريخ وأساسيات ثورة الجودة الشاملة التي غيرت وجه الأعمال التجارية العالمية. إنه ليس فقط تحليلًا لأفكار بعض من أعظم العقول في هذا المجال، بل هو أيضًا دليل عملي لأولئك الذين يرغبون في تطبيق هذه المفاهيم لتحسين مؤسساتهم ورفع كفاءتها. من خلال هذا الكتاب، يمكن للمسؤولين والمديرين أن يتعلموا كيفية الاستفادة من خبرات هؤلاء الخبراء لتحسين الجودة في جميع جوانب أعمالهم التجارية.