أكبر الأديان في دولة تونس، الإسلام في تونس، المسيحية في تونس، اليهودية في تونس، التعدد الديني في تونس، التاريخ الديني لتونس، الأقليات الدينية، الهوية الدينية التونسية

الأديان في تونس: دراسة تحليلية موسعة لتاريخ وتوزيع الانتماءات الدينية

تُعد تونس دولة ذات هوية دينية واضحة يغلب عليها الطابع الإسلامي، لكنها في الوقت ذاته تحتضن تنوعاً دينيًا ثقافيًا يعكس عمقها التاريخي وموقعها الجغرافي الذي جعل منها ملتقى للحضارات القديمة والحديثة. بالرغم من أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة والمهيمن على الحياة العامة والخاصة للمواطنين، فإن الوجود المسيحي واليهودي وغيرهما من الأديان لعب دوراً بارزاً في تشكيل الهوية الدينية التونسية على مر العصور.

الإسلام في تونس: الدين السائد والأساس الثقافي

يشكل الإسلام الديانة الغالبة في تونس، حيث يعتنقه أكثر من 99% من السكان. وينتمي الغالبية العظمى من المسلمين التونسيين إلى المذهب المالكي السني، الذي ترسخ في البلاد منذ القرن التاسع الميلادي. وكان للمذهب المالكي دور محوري في تشكيل القوانين الاجتماعية والتقاليد الثقافية للتونسيين، وخصوصاً في ما يتعلق بالأحوال الشخصية، والزواج، والميراث، والطقوس الدينية.

تاريخياً، دخل الإسلام إلى تونس في القرن السابع الميلادي أثناء الفتوحات الإسلامية، وكان لفتح القيروان على يد عقبة بن نافع سنة 670م أهمية استراتيجية في تأسيس قاعدة إسلامية متينة في شمال إفريقيا. سرعان ما أصبحت القيروان مركزًا فكريًا ودينيًا مهمًا، وبرزت كمحور لنشر المذهب المالكي وتعليم العلوم الشرعية واللغوية.

وقد لعبت المؤسسات الدينية مثل جامع الزيتونة دوراً محورياً في ترسيخ الفكر الإسلامي المعتدل، وكان لها حضور قوي في الحياة الفكرية والسياسية على مر العصور، خاصة خلال العهد الحفصي ثم في فترات الدولة العثمانية والاستعمار الفرنسي.

في العهد الحديث، وعلى الرغم من الفصل الدستوري بين الدين والدولة، لا يزال الإسلام يشكل عنصراً بنيويًا في الهوية الوطنية لتونس. وقد نص الدستور التونسي لسنة 2014 على أن “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”. وعلى الرغم من التأكيد على حرية المعتقد والضمير، فإن العديد من التشريعات التونسية لا تزال مستمدة من الفقه الإسلامي، خاصة في قوانين الأسرة.

المسيحية في تونس: حضور تاريخي محدود

المسيحية تُعد ثاني أكبر ديانة في تونس، رغم أن عدد معتنقيها محدود جداً مقارنة بالمجتمع الإسلامي، ولا تتجاوز نسبتهم 0.2% من إجمالي السكان. يعود الحضور المسيحي في تونس إلى العصر الروماني، حين كانت قرطاج مركزاً مسيحياً مهماً وبرزت شخصيات لاهوتية عظيمة مثل القديس أوغسطين. ازدهرت الكنيسة الأفريقية في تلك الفترة، وشكلت أحد أبرز فروع المسيحية الأولى.

مع الفتح الإسلامي، تراجع الوجود المسيحي تدريجياً، غير أنه لم ينقرض، بل استمر بشكل محدود خاصة في بعض المناطق الداخلية وفي صفوف السكان الأمازيغ. خلال فترات الحكم العثماني والاستعمار الفرنسي، شهد الحضور المسيحي انتعاشًا طفيفًا، خصوصاً مع قدوم أعداد كبيرة من المستوطنين الأوروبيين، وخاصة الفرنسيين والإيطاليين.

اليوم، يتكون المجتمع المسيحي في تونس أساساً من الأجانب المقيمين من جنسيات أوروبية وأفريقية، بالإضافة إلى عدد صغير جداً من التونسيين المسيحيين، ومعظمهم من أصول أجنبية. وتوجد كنائس كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية، موزعة أساساً في العاصمة وبعض المدن الكبرى مثل صفاقس وسوسة. الكنيسة الكاثوليكية هي الأكثر حضوراً من بين هذه الطوائف، وتحظى باعتراف رسمي من الدولة.

اليهودية في تونس: جذر قديم وهوية تونسية أصيلة

تحتل اليهودية مكانة خاصة في التاريخ الديني لتونس، إذ تعود جذور الوجود اليهودي إلى أكثر من ألفي عام. وتُعتبر تونس واحدة من أقدم الدول التي استقرت فيها الجاليات اليهودية، ويُعتقد أن اليهود الأوائل قدموا إلى البلاد بعد سقوط القدس سنة 70 ميلادية، ليجدوا في شمال إفريقيا ملاذًا دينيًا واجتماعيًا.

تركزت الجالية اليهودية بشكل خاص في جزيرة جربة، التي لا تزال حتى اليوم تحتضن واحدة من أقدم المعابد اليهودية في العالم: “كنيس الغريبة”، والذي يُعد مزارًا دينيًا وثقافيًا يقصده يهود من مختلف دول العالم. كما كانت هناك جاليات مهمة في العاصمة تونس وصفاقس وسوسة ومدن الجنوب.

بلغ عدد اليهود في تونس خلال فترة الاستعمار الفرنسي قرابة 100,000 نسمة، لكن بعد استقلال البلاد في 1956 وقيام دولة إسرائيل، بدأت أعدادهم في التراجع بسبب عوامل الهجرة إلى أوروبا وإسرائيل والولايات المتحدة. واليوم يُقدر عدد اليهود في تونس بين 1000 و1500 فرد فقط، معظمهم يعيشون في جربة، ويُمارسون حياتهم الدينية بحرية تحت حماية الدولة.

وقد أبدت الدولة التونسية، على مدى الحكومات المتعاقبة، اهتماماً خاصًا بالحفاظ على التراث اليهودي وضمان حرية ممارسة الشعائر. ويُعد التعايش السلمي بين المسلمين واليهود في جربة نموذجاً نادراً في العالم العربي من حيث الانسجام والتسامح.

الأقليات الدينية الأخرى: وجود رمزي دون تأثير

إلى جانب الأديان الثلاثة الرئيسية، توجد في تونس أقلية صغيرة جدًا من معتنقي ديانات أخرى مثل البهائية، والهندوسية، والبوذية، ومعظمهم من المقيمين الأجانب أو الطلبة. وتُعتبر هذه الديانات ذات وجود رمزي أكثر من كونها مكونات فعالة في المشهد الديني التونسي. وغالبًا ما يُمارس أتباع هذه الأديان شعائرهم في إطار خاص دون مظاهر علنية، لعدم وجود معابد أو أماكن مخصصة لهم.

كما أن تونس تشهد حالات فردية من التحول الديني أو اللادينية، غير أن هذه الظواهر تبقى غير معلنة غالبًا نتيجة الحساسيات الاجتماعية والدينية. ويُعتبر موضوع التحول الديني من الإسلام إلى أديان أخرى أو إلى اللادينية من المواضيع الجدلية، التي لم تُحسم قانونيًا رغم وجود ضمانات دستورية لحرية الضمير.

التعدد الديني في تونس بين التعايش والخصوصية

رغم هيمنة الإسلام على النسيج الديني والاجتماعي، إلا أن تونس تُمثل نموذجًا منفتحًا نسبيًا في العالم العربي في ما يخص التعامل مع التنوع الديني. فقد أقر دستور 2014 مبدأ حرية المعتقد والضمير، وأكد على حياد الدولة في المسائل الدينية. هذا التوجه منح الأقليات الدينية حرية نسبية في ممارسة شعائرها، كما ساهم في الحفاظ على الطابع التعددي للهُوية التونسية.

من الناحية المؤسسية، لا توجد وزارة خاصة بالأديان، لكن وزارة الشؤون الدينية تُشرف على تنظيم العمل الديني الإسلامي، بينما يُترك تنظيم الشؤون الدينية للأقليات بيد المجتمعات الدينية نفسها ضمن ما تسمح به القوانين. ويتم تنظيم شؤون الجاليات اليهودية والمسيحية من خلال ممثليات وجمعيات رسمية معترف بها.

وفي ما يلي جدول يوضح التوزيع التقديري للأديان في تونس:

البعد التاريخي والدستوري للهوية الدينية في تونس

ارتبط الدين في تونس دومًا بالهوية الوطنية، لكن البلاد عرفت فترات من الصراع بين التوجهات الدينية المحافظة والتوجهات العلمانية. فعقب الاستقلال، اتخذ الرئيس الحبيب بورقيبة خطوات قوية لتحديث المجتمع، من خلال سن قوانين إصلاحية تمس المؤسسة الدينية مثل مجلة الأحوال الشخصية التي منعت تعدد الزوجات وشرّعت الطلاق أمام المحاكم، وهو ما شكّل خطوة جريئة في العالم الإسلامي.

وتواصل هذا التوجه مع الرئيس زين العابدين بن علي، حيث اتسمت العلاقة بين الدولة والدين بنوع من التوتر، خصوصًا مع تصاعد الحركات الإسلامية المعارضة. وبعد الثورة التونسية في 2011، دخلت البلاد مرحلة جديدة من إعادة تعريف العلاقة بين الدين والدولة، خاصة مع صعود التيارات الإسلامية للسلطة، قبل أن يتم إعادة التوازن من خلال اعتماد دستور يضمن الحريات ويؤسس لمدنية الدولة مع الحفاظ على المرجعية الإسلامية.

خاتمة تحليلية

إن المشهد الديني في تونس يتميز بثنائية واضحة: من جهة، هيمنة الإسلام كمكون أساسي للهُوية الوطنية والاجتماعية والثقافية، ومن جهة أخرى، وجود أقليات دينية لعبت أدوارًا تاريخية هامة ولا تزال تمثل قيمة رمزية وثقافية. تُعد تونس مثالًا فريدًا في العالم العربي بفضل نموذجها في التسامح والتعايش الديني، رغم التحديات التي تفرضها